تقرأ في هذه الصفحة:
1- الإفخــارستيا.
2- التأله في الفكر الآبائي (بحث مختصر)
3- التجسد الإلهي وسقوط الإنسان (قراءة لبعض المفاهيم اللاهوتية) (جديد)
المنهج التفسيري للقديس كيرلس الكبير
مقارنةً مع مارتن لوثر، وزوينجلي
في تفسيرهم للوقا ٢٢: ١٧ – ٢٠ (النص الخاص بالإفخارستيا)
بقلم دكتور/ ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت (PhD) - جامعة ريجينت، فرجينيا
بقلم دكتور/ ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت (PhD) - جامعة ريجينت، فرجينيا
المقدمة:
" ثم تناول كأسًا وشكر وقال: خذوا هذه واقتسموها بينكم، لأنى أقول لكم إنى لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتى ملكوت الله، وأخذ خبزًا وشكر وكسر وأعطاهم قائلاً: هذا هو جسدى الذى يبذل عنكم . اصنعوا هذا لذكرى . وكذلك الكأس أيضًا بعد العشاء قائلاً: هذه الكأس هى للعهد الجديد بدمى الذى يسفك عنكم. "( لو 22 : 17 - 20)
يُعد هذا الفصل الكتابي من الإنجيل بحسب القديس لوقا، من أكثر الفصول الكتابية التى أثارت جدلاً، واحتدم حول تفسيرها نقاشًا واسعًا. ونظرًا لأن هذا النص الكتابي يعتبر أحد النصوص الأساسية فى تأسيس سر الإفخارستيا، العشاء الرباني، فإن الإختلاف فى تفسيره ، نتج عنه اختلاف حول ماهية سر الإفخارستيا.
ورقة البحث هذه تتناول هذا النص الكتابى من خلال تفسير أحد آباء الكنيسة العظماء وهو القديس كيرلس الاسكندرى "عمود الدين". وذلك من خلال نظرة تحليلية لمنهجه التفسيري، وكيفية تعبيره عن الفهم الآبائى لسر الإفخارستيا من خلال التفسير الكتابي.
وسوف يتم تناول هذا المنهج التفسيرى تناولاً ليس مُنفرِدًا، ولكن بمقارنته بمنهجي تفسير آخريين لإثنين من المصلحين الغربيين وهما مارتن لوثر وزوينجلى.
ومن خلال النظر إلى هذه التيارات متوازية، سوف يظهر واضحًا نقاط التمايز ونقاط الالتقاء بينهم، وكيف أن المنهج التفسيرى ، فى هذا النص الكتابى على سبيل المثال، لعب دورًا واضحًا فى فهم ماهية سر الإفخارستيا عند كلٍ منهم .
أولا ً: تفسير كيرلس الكبير للنص موضوع الدراسة ( لو22: 17 - 21)[1]
يرى القديس كيرلس في سر الشكر شركة مع المسيح، فسر الشكر هو واسطة لحلول المسيح فينا، بعد حلوله فينا بالإيمان "ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم". وسر الشكر هو البركة المحيية، إذ يقول القديس: "إننا نستقبل داخلنا كلمة الآب الذي صار إنسانًا لأجلنا، والذي هو الحياة ومُعطي الحياة."[2]
هذا ويبدأ كيرلس في إيضاح ماهية سر الإفخارستيا، ويبدأ شرحه من سقوط الإنسان وكيف أن سقوط آدم أدخل الموت والفساد إلى البشرية ولكن بتجسد الكلمة الذي هو الحياة، فتح باب الخلود مرة أخرى للإنسانية كلها. فالإنسان المائت لكي يعود إلى عدم الفساد، يلزمه أن يصير شريكًا للقوة المحيية. وقوة الله المحيية هو الكلمة وحيد الجنس، الذي صار جسدًا وحل فينا[3] (يو1: 14). وإذ صار جسدًا، رفع الجنس البشري فوق سلطان الموت والانحلال. ويقول كيرلس في هذا: "لذلك فإن الكلمة، إذ وحد مع ذاته ذلك الجسد الذي كان خاضعًا للموت، فلكونه الله و الحياة، فقد طرد منه الفساد (الانحلال)، وجعله أيضًا يصير مصدر الحياة، لأنه هكذا ينبغي أن يكون جسد ذاك الذي هو الحياة."[4] وهكذا ينتقل بنا كيرلس إنتقالاً مُتقنًا من اتحاد الكلمة بالإنسانية في جسده، إلى إعطاء هذا الجسد أن يصير له قوة إعطاء الحياة بكيفية لا يعرفها إلا الكلمة فقط. فيصير لنا هذا الجسد الذي نأخذه في الإفخارستيا قوة حياة، فالذي نأخذه في الإفخارستيا عند القديس كيرلس هو بالحقيقة جسد الكلمة المحيي الذي مُنِح قوة الحياة من الاتحاد بالكلمة. ويبرهن عمود الدين على ما يقوله بأمثلة بسيطة مثل الحديد والنار. عندما يوضع الحديد في النار، فإنه يمتليء بفاعلية النار، هكذا جسد الكلمة المحيي، قد أُعطِيَ قوة إعطاء الحياة باتحاده بالكلمة.
ونحن نأخذه في الإفخارستيا، فتكون لنا الحياة فينا. ولئلا يعترض أحد على هذا قائلاً أن هذا يجعل لأجسادنا أيضًا القوة لإعطاء الحياة، فإن كيرلس يوضح الفرق بين صيرورة الكلمة جسدًا، أي التجسد،
وبين أن يشاركنا بجسده في الإفخارستيا. فالكلمة صار جسدًا حينما صار جسدًا، ولكن لا يُقال عنه أنه يتجسد مرة أخرى عندما يحل فينا.
ولكن يوضح كيرلس: "أن الكلمة يليق به أن يكون فينا إلهيًا بالروح القدس، وكذلك أيضًا -إن جاز القول- يمتزج بأجسادنا بواسطة جسده المقدس ودمه الثمين، الذين نقتنيهما أيضًا كإفخارستيا مُعطية للحياة في هيئة الخبز والخمر."[5]. وهو يؤكد هذا باستناده على قول المسيح "هذا هو جسدي و هذا هو دمي".
ثانيًا: نظرة تحليلية لمنهجية تفسير القديس كيرلس للنص موضوع الدراسة :
من الواضح أن القديس كيرلس يفسر الإنجيل بعمق يتضح فيه الفهم الإنجيلي، وببساطة يتضح فيها الإيمان النقي بكلمات الوحي، وبأصالة تُظهر بوضوح إيمان الآباء السابقين.
فعند التأمل فى تفسير كيرلس للنص موضوع الدراسة، يمكن ملاحظة أن كيرلس لم يشرح الإفخارستيا من خلال النص الذي يفسره فقط، وبمعزل عن باقي النصوص أو عن العقائد الأخرى أو التقليد الرسولي.
إنما نظر إلى النص فى قرينته الكتابية والعقائدية أيضًا. وقبَِل المكتوب ببساطة وقوة. فما يعطيه المسيح هو جسده بالحق وهو دمه بالحق على الرغم من أنهما بنفس الوقت خبز وخمر حقيقين، نظرًا لأن خبز الإفخارستيا ليس مجرد رمز بل هو رمز و فى نفس الوقت حقيقة.[6]
وقد يتعجب شخص لهذا، ولكن يزول التعجب إذ يُفهم من دراسة الآباء أنهم لم يميزوا بين العرض والجوهر[7].
ولم ينشغلوا بالبحث عن الخط الفاصل ما بين المنظور وغير المنظور في الأمور الروحية، فعندما يتعامل الكاهن مع الخبز والخمر، فإنه يتعامل مع جسد ودم المسيح، على الرغم من بقاء العرض غير متغير، ويقول فى هذا بباوي :
... إن الآباء في القداسات القديمة اعتبروا الخبز مثالاً لجسد المسيح. و كلمة مثال هي الكلمة اليونانية "تيبوس" والذين يقرأون العهد الجديد باليونانية يعلمون أنها كلمة واسعة عند الرسول بولس، تعني النموذج أو الشيء الذي يخبر بشيء، وبالتالي فإن قداس القديس سيرابيون، وهو الصديق الحميم لأثناسيوس الرسولي، وفي القداس الباسيلي، النص اليوناني-وهو مختلف كثيرًا عن النص القبطي- هذا الخبز المقدس مثال لجسد المسيح، وبالتالي فعندما نكسر هذا الخبز و نشرب من هذه الكأس، فإننا نعيش الذكرى، ليس بالمعنى الموجود عند زونجلي وهو الشائع فى مصر بكل أسف، ولكن بالمعنى الشائع فى الكتاب المقدس، فالذكرى هى حضور. فالمسيح الحاضر فى وليمة العشاء الربانى يعطى حياته للمؤمنين، ويتذكر المؤمنون، ليس من قبيل النسيان، وليس بعمل عقلى مجرد ما حدث على الصليب و فى القيامة، و لكنهم يتذكرون بالاشتراك فى حياته ما فعله المسيح و ما وهبه لأجلهم فى الصليب و فى القيامة...[8]
وهذا هو ما يقصده كيرلس عمود الدين عندما يقول: "جسد المسيح هو جسد محيى. فحينما نقبله فى الافخارستيا بالاشتراك فى الخبز " الروحى "، "السرى"، " المحيي " المُعطى لنا فى " الأولوجية " ( الإفخارستيا )، فإن جسد المسيح يجعلنا نحيا حياة جديدة، سماوية، إلهية، غير مائتة. وأما الروح القدس فهو الذى بحضرته الفعالة النشيطة والمغيرة يشرف ويقود عملية الإحياء هذه ويدخلنا إلى شركة الطبيعة الإلهية. فبالتناول من ذبيحة المسيح تنتقل حياة ابن الله ذاته، الموجود بحق على مذابح الكنائس إلى الذين صاروا أبناء بالتبني" [9]
ويقول أيضًا : "ليس الخبز إذا فى سر الأولوهية ( الافخارستيا ) مجرد رمز، ولكنه وجود حقيقي للرب. وما يظهر أمامنا ليس مجرد صورة، ولكنه فى الواقع حقيقة جسد المسيح عينه."[10] ويظهر فى تفسير القديس لهذا النص أن فهمه الكريستولوجي يحتل مركز التفسير، فهو من خلال فهمه لسر المسيح يُفسِر، ويتضح هذا من موضع آخر إذ يقول: "حيث أن جسد المخلص صار محيياً بسبب اتحاده بذاك الذي هو الحياة بطبعه أي باللوغوس، لذلك فنحن حينما نأكل هذا الجسد ننال منه الحياة داخلنا لأننا نصير مُتَحدين به بمثل ما هو مُتحد باللوجوس الساكن فيه."[11]
ويعلق على هذا الأب متى المسكين قائلاً : " أي أن اتحادنا بجسد المسيح هو على مثال اتحاد هذا الجسد الإلهى باللاهوت الساكن فيه! وهكذا نرى فى معظم الأقوال السابقة أن القديس كيرلس يربط بين الإتحاد الأقنومى الذى تم فى المسيح وبين حلول اللوغوس فينا، أى بين شطرى الآية: "والكلمة صار جسدًا "، و"حل فينا". ويُبَين أن الشطر الأول هو أساس و"وسيلة" تحقيق الثانى، وأن الثانى هو "غاية" الأول: ( السر الذى حدث فى المسيح هو "وسيلة" اتحادنا بالله ) [12]. ولئلا يعتقد أحد أن هذا الفهم خاص بكيرلس وحده، وأنه ليس أحد من الآباء نادى بهذا ، فإنه كيرلس نفسه يؤكد بوضوح أنه يحفظ شرح الآباء القديسيين [13]. هذا ويمكننا أن نجد إثبات هذا عند أثناسيوس الرسولي إذ يقول :
"لأن (الكلمة) لم يكن ضعيفًا أو قليل الشأن عندما قَبلِ المجد لنفسه كأنه يطلب أو يبحث لنفسه عن نعمة، بل أنه بالحرى ألَّه الجسد الذى لبسه. والأكثر من هذا أنه "أعطى" وسلم جسده المؤله هذا. بنعمه خاصة ومجاناً إلى الجنس البشرى (الأسرار )...ونحن إنما نتأله ( نتحد بالله ) ليس باشتراكنا (السرائرى) من جسد إنسان ما ولكن بتناولنا من "جسد" الكلمة ذاته"[14]
وبالطبع هذا الاقتباس يظهر بوضوح كيف كان لأثناسيوس الرسولي من قبل كيرلس نفس الإيمان الذي حفظه كيرلس، وكيف أن كيرلس يفسِر من خلال تمسكه بالتقليد الحي فى الكنيسة.
ومن الواضح أيضًا فى تفسير كيرلس أنه يفسر تفسيرًا روحيًا، فكما سبقت الإشارة فإنه لم يميز، شأنه شأن باقي الآباء، بين العرض و الجوهر، فهو ينظر للخبز والخمر المذكورين فى لوقا 22 ويتخطى حدود الحرف لكى يفهم بالروح الماهية الحقيقة لكليهما. وعلى هذا يمكن إجمال المنهج التفسيرى للقديس كيرلس فى ثلاثة مبادئ أساسية[15]، وضحت من خلال التأمل فى تفسيره للنص موضوع الدراسة وهى: أولاً: الأساس الكريستولوجى، فقد فهم الإفخارستيا، على سبيل المثال، بناءاً على فهمه لسر المسيح، ثانيًا: الأساس الكنسى و المُمثل هنا فى التقليد، إذ رأينا كيف حافظ على تقليد الآباء وتأكد هذا من مراجعة فكر أثناسيوس فى الإفخارستيا، ثالثًا: الأساس الروحى، إذ لم يقف كيرلس متحيرًا أمام مشهد المسيح وهو يقدم بنفسه خبز وخمر ويقول خذوا هذا هو جسدى ودمي.
والسؤال الآن هل تشابه منهج القديس كيرلس التفسيري مع أي منهج لأىٍ من مفسري عصر الإصلاح؟ وهذا هو موضوع الجزئية التالية.
ثالثًا : مارتن لوثر و تفسيره للوقا ( 22 ) :
من المعروف أن لوثر كان عنده عقيدة واضحة فى سر الإفخارستيا، ودفاعه عن هذه العقيدة قد كلفه الكثير. إذ أنه بسبب تمسكه الشديد بما كان يؤمن به، نشأ الخلاف الكبير بينه و بين المصلح زوينجلى.
وكان (لوقا 22) أحد الأجزاء الهامة التى بنى عليها لوثر عقيدته. بل أن ( لوقا 22 ) "هذا هو جسدى" كانت الآية التي يكررها لوثر بلا أى ملل فى وجه معارضيه وقيل أنه فى المحاورة التى جرت بينه وبين زوينجلى فى ماربورج، كتب لوثر تحت غطاء مائدة المحاورات "هذا هو جسدى" وذلك حتى يذكر بها نفسه كي لا يحيد عن الطريق والفهم الصحيح.[16]
ولقد فهم لوثر وفسر النص موضوع الدراسة بأن المسيح عندما يقول "هذا هو جسدى" فهو يقصد ما يقوله بالضبط، على هذا فإن المسيح حاضر فعلاً وحرفًا في الخبز والخمر، ورفض لوثر حدوث تغير مادى فى الخبز والخمر، فمثله مثل الآباء لم يقع فى الحيرة ما بين الجوهر والعرض. وفهم لوثر قدرة المسيح عل جعل هذا الجسد محييًا واستعار من كيرلس تشبيه الحديد والنار[17] ولكي يفسر لوثر كيف أن الخبز والخمر لا يحدث لهما تغير مادي-(لا يحدث لهما ما يعرف عند الكاثوليك بالاستحالة)- ورغم ذلك فإن المسيح حاضرًا بالفعل فيهما، رجع لوثر إلى عقيدة التجسد. وقال أنه عندما تجسد ابن الله، والكلمة صار جسدًا، فإن ابن الله لم يتجرد من لاهوته والناسوت لم يختفى. ولكن احتفظت كلٌ من الطبيعتين بخواصهما دون أدنى تغيير أو تبديل[18]. وتشاركت كل من الطبيعتين فى الأخرى فكما أن اللاهوت تأنس، فهكذا ناسوت الرب تأله وأصبح له قوة الحياة فى ذاته بدون أن يفقد إنسانيته.[19]
وبالمثل ما يحدث فى الإفخارستيا، فإن الخبز يصبح جسد محيي والخمر هكذا، بدون أن يفقدا خواصهما المادية.
وهكذا نستطيع أن نلمح كيف أن لوثر وضع فى مركز تفسيره الفهم الكريستولوجي، فقد فهم (لو 22) على سبيل المثال والجزء الخاص بالافخارستيا، إنطلاقًا من فهمه للتجسد ولطبيعة شخص المسيح، كما أن لوثر لم يرد أن يحيد عن الآباء، وهذا واضح من تفسيره و يؤكد عليه أيضًا العالم الارثوذكسي جورج حبيب بباوى [20] ويشهد له حنا الخضرى إذ يقول : "يلاحظ القارئ أن تعليم لوثر يتفق كثيرًا و تعاليم الأسكندرية"[21]
واستنتاجًا مما تقدم، يمكن ملاحظة التلاقي ما بين كيرلس الكبير ولوثر فى المنهج التفسيري، فقد إتبع كلٌ منهما نفس المنهج تقريبًا فوصلا لنفس النتائج. بينما لم يفعل آخرون هذا، فوصلوا لنتائج مختلفة وهذا هو موضوع الجزئية التالية.
رابعًا : زوينجلى و تفسيره :
فى تفسير زوينجلى للنص موضوع الدراسة، تناول "هذا هو جسدى" وفسر أن كلمة "هو" ينبغي أن يفهم معناها "يدل على" أو "يشير إلى" وبناءًا على هذا فقد رفض زوينجلى تمامًا أن يكون الخبز والخمر أكثر من مجرد ذكرى، ورفض تمامًا أفكار لوثر.
ويقول جون لوريمر عن زوينجلي: "فى رأى زوينجلى يجب أن تفهم كلمات النص على النحو التالى: "هذا، أي الشئ الذى أقدمه لكم للأكل، هو رمز لجسدي، مقدم لأجلكم، وهذا الذي أعمله الآن، يجب أن تعملوه أنتم مستقبلاً لذكري. مثل عيد الفصح عند اليهود يكون عشاء الرب عيد الذكرى العظيم للفداء ..."[22]
واصطدم زوينجلى بالجدل الفلسفي كيف يكون المسيح بجسده الممجد فى السماء، فى نفس الوقت حاضرًا فى الافخارستيا، وعلى هذا فالافخارستيا عنده هى مجرد عمل للذكرى العقلية. ومن المُلاحظ أن زوينجلى فى صياغة عقيدته لم يحاول أبدًا أن يربطها بأيٍ من العقائد الأخرى، فلم يحاول مثلاً أن يفكر فى الأساس الكريستولوجى مثل لوثر ومن قبله كيرلس، كما أن زوينجلى لم يرجع للآباء، ولكن حصر نفسه في قضية فلسفية وجدل عقلي لا فائدة منه، واكتفى بالنظر إلى النص منعزلاً عن الأساسات التفسيرية الأخرى. ولذا جاءت عقيدته غير متوافقة مع روح الانجيل أو التعليم الآبائى.
الخاتمة :
تناول الباحث فى هذه الورقة البحثية ( لوقا 22 : 17 - 20 ) كنموذج لنص فسره القديس كيرلس الكبير، كما فسره أيضًا المصلح مارتن لوثر ومن بعده زوينجلى، وأوضحت الدراسة كيف أنه يمكن تلخيص منهج كيرلس التفسيرى فى ثلاث أساسات واضحه الأساس الكريستولوجى، الأساس الكنسى متمثلاً فى التقليد الحىّ، الأساس الروحى للتفسير.
كما لوحظ تلاقى لوثر مع كيرلس فى الكثير من أساسات المنهج التفسيرى، فقد وضع لوثر الأساس الكريستولوجى فى مركز تفسيره ولم يحد عن الآباء.
وهكذا فقد خرج كلٌ منهما بعقيدة أقرب إلى التطابق بشأن سر الافخارستيا، فالافخارستيا عند كلٍ منهما هى بالحقيقة جسد ودم الرب المحيين وذلك دون تغير لمادة الخبز والخمر، بينما اختلف عنهما زوينجلى تمامًا، بل ووقف مع النقيض منهما بمنهجه التفسيرى المبتعد كل البعد عن منهجيهما، فالعشاء الرباني عنده ليس أكثر من ذكرى، وهكذا وصل لعقيدة مختلفة تمامًا عن روح الإيمان والتقليد بشأن هذا السر المقدس سر الافخارستيا.
المراجع المستخدمة:
- الكتاب المقدس (ترجمة سميث - البستاني/فانديك).
- ابراهيم, جورج عوض. (محاضرات غير منشورة في تفسير الكتاب المقدس عند الآباء-كلية اللاهوت الإنجيلية العباسية, القاهرة, 2007).
- أحد رهبان برية القديس مقاريوس. دراسات في أباء الكنيسة. القاهرة: دار مجلة مرقس, 2000.
- الاسكندري, كيرلس.تفسير إنجيل لوقا. ترجمة نصحي عبد الشهيد. القاهرة: مؤسسة القديس أنطونيوس المركز الأرثوزكسي للدراسات الآبائية, 2006.
- الخضري, حنا. لوثر حياته و تعاليمه. القاهرة: دار الثقافة, 1984.
- المسكين, متى. التجسد الإلهي في تعليم القديس كيرلس الكبير. وادي النطرون: دير القديس الأنبا مقار, 1988.
- المسكين, متى. القديس أثناسيوس الرسولي. وادي النطرون: دير القديس الأنبا مقار, 2002.
- بباوي، جورج حبيب. العشاء الرباني, لوثر و الآباء. مقال منشور على الانترنت (www.coptology.com)
- رهبان دير القديس الأنبا مقار. الكنيسة جسد المسيح في تعليم القديس كيرلس الكبير. القاهرة: دار مجلة مرقس, 1993.
- لوريمر, جون. تاريخ الكنيسة-الجزء الرابع. ترجمة عزرا مرجان. القاهرة: دار الثقافة, 1990.
[1] كيرلس الاسكندري, تفسير إنجيل لوقا. ترجمة نصحي عبد الشهيد (القاهرة: مؤسسة القديس أنطونيوس.المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة, 2001) عظة 142, ص108
[2] المرجع السابق, 109
[3] بحسب الأصل اليوناني.
[4] المرجع السابق, 111
[5] المرجع السابق, 113
[6] رهبان دير القديس أنبا مقار، الكنيسة جسد المسيح فى تعليم القديس كيرلس الكبير.( وادى النطرون: دار مجلة مرقس، 1993 ) ص 37
[7] جورج حبيب بباوى, مقال بعنوان "العشاء الرباني- لوثر و الآباء" www.coptology.org ص7
[8] المرجع السابق, ص7
[9] رهبان دير القديس أنبا مقار, مرجع سابق، ص39، 40
[10] المرجع السابق ، ص40
[11] متى المسكين, التجسد الإلهي في تعليم القديس كيرلس الكبير.(وادي النطرون: دير القديس الأنبا مقار,1988) ص33
[12] المرجع السابق, ص33
[13] أحد رهبان برية القديس مقاريوس، دراسات فى أباء الكنيسة. ( القاهرة: دار مجلة مرقس، 2000 ) ص490
[14] متى المسكين، القديس أثناسيوس الرسولى. ( وادى النطرون: دير القديس الأنبا مقار، 2002) ص508، 509
[15] جورج عوض ابراهيم.(محاضرات غير منشورة في تفسير الكتاب المقدس عند الآباء.كلية اللاهوت الإنجيلية العباسية, القاهرة, 2007)
[16] حنا الخضرى، لوثر حياته و تعاليمه ( القاهرة: دار الثقافة ،1984) ص82
[17] جون لوريمر، تاريخ الكنيسة- الجزء الرابع، ترجمة عزرا مرجان ( القاهرة، دار الثقافة ، 1990 ) ص 172 ، 173
[18] حنا الخضري, مرجع سابق،ص95
[19] المرجع السابق ، 92
[20] جورج حبيب, مرجع سابق،ص7، 8
[21] حنا الخضري, مرجع سابق،ص82
إعداد الأخ/ ثروت ماهر
مايو/ 2007
____________________________________________
بحث مختصر حول : التأله ( الثيئوسيس ) في الفكر الآبائي
الثيئوسيس في
الفكر الأبائي
محتويات الورقة البحثية:
- المقدمة
- المقصود
بالتأله أو الثيئوسيس.
- مقتطفات
من كتابات أثناسيوس والتعليق عليها.
- الأساس الكتابي للثيئوسيس:
- العهد القديم.
- العهد الجديد.
-
أمثلة
لكتابات آبائية أخرى حول الثيئوسيس.
- القديس
إيرينيئوس.
- العلامة
كليمنضس السكندري.
- القديس
باسيليوس.
- غريغوريوس
اللاهوتي.
- غريغوريوس
النيصي.
- كيرلس
الكبير.
- الأب متى
المسكين كمثال للاهوتي معاصر تناول مفهوم التأله في الكثير من كتاباته.
- محاولة للربط بين التأله أو الثيئوسيس في الفكر الآبائي وبين القداسة الكاملة أو الكمال المسيحي في الفكر الوسلي.
أولاً:
المقدمة:
"لأن الكلمة تأنس (صار إنسانًا)
لكي نصير نحن مُؤلهين"
تعتبر
هذه العبارة مدخلاً مناسبًا لموضوع الدراسة في ورقة البحث هذه.
والعبارة
منقولة عن أثناسيوس الرسولي[1] في كتابه
(تجسد الكلمة).
ويتناول الباحث في ورقة البحث هذه
دراسة لمفهوم التأله أو الثيئوسيس في الفكر الآبائي، حيث تشمل الدراسة المعنى
المقصود بالتأله في الفكر الآبائي، مع مسح لبعض الكتابات الآبائية المختلفة التي
تناولت هذا المفهوم.
كما يعرض الباحث أيضًا نموذجًا
معاصرًا لباحث لاهوتي اهتم بهذا الموضوع إهتمامًا خاصًا، وهو المتنيح الأب متى
المسكين.
وفي النهاية يعرض الباحث أطروحة خاصة
به، ألا وهي محاولة عصرية لفهم علاقة مُستَنتَجة بين فكر التأله في الآبائيات،
وفكر القداسة الكاملة أو الكمال المسيحي في اللاهوت الوسلي.
هذا وسوف يقوم الباحث، في هذا البحث،
بدراسة الفكرة الأساسية، مُستندًا على إقتباسات آبائية، وكتابات مُعاصرة حول نفس
الموضوع. وذلك بهدف الوصول إلى أقرب ما يكون من المعنى الأصلي الذي استخدم به
الآباء هذا المصطلح، الثيئوسيس أو التأله، وذلك لإزالة أي حيرة تنتج عن التعامل مع
هذا المصطلح.
كما سيحاول الباحث محاولة خاصة للربط
بين مفهوم الثيئوسيس ومفهوم الكمال المسيحي، وذلك من خلال بعض الكتابات التابعة
للمدرسة الوسلية، قديمة ومعاصرة، ومحاولة ربطها بالكتابات الآبائية.
ثانياً:
المقصود بالتأله أو الثيئوسيس:
يرى
الباحث أن أفضل طريق لفهم فكر التأله عند الآباء هو فحص بعض كتابات الآباء أنفسهم،
ونأخذ بعض مقتطفات من كتابات أثناسيوس كمثال على هذا.
-
مقتطفات من كتابات أثناسيوس و التعليق عليها:
يقول
القديس أثناسيوس الرسولي: "لأنه تأنس (صار إنسانًا) لكي نصير نحن إلهًا،
وأظهر نفسه في جسد لكي يعطينا فكرة عن الآب غير المنظور، واحتمل الإهانة من البشر
لكي نرث نحن عدم الموت. لإنه إذ لم يمسسه أي ضرر، إذ هو غير قابل للألم أو الفساد،
وهو ذات الكلمة، وهو الله. فإن البشر الذين كانوا يتألمون والذين لأجلهم احتمل كل
ذلك، قد خلصهم وحفظهم مثله في حالة عدم التألم" (تجسد الكلمة ف54: 3)[2]
كما
يقول أيضًا: " تأنس الكلمة حتى ما يقدم جسده عن الجميع، وحتى إذا اشتركنا في
روحه نتأله. هذه العطية التي لا يمكن أن ننالها إلا بواسطة ارتدائه جسدنا المخلوق.
ومن هنا أخذنا اسمنا (أناس الله) أو (أناس المسيح). ولكن كما أننا إذا أخذنا الروح
القدس فإننا لا نفقد جوهر طبيعتنا، وهكذا الرب، عندما تأنس لأجلنا ولبس جسدًا لم
يفقد ألوهيته. لأنه لم يفقد ألوهيته بنمو جسده وإنما ألَّه الجسد وجعل هذا الجسد
عديم الموت." (الدفاع عن الإيمان النيقاوي المشهور ص 159 من الترجمة
الإنجليزية)[3]
وأما
في دفاعه ضد الأريوسيين فيقول: "إنه (المسيح) لم يكن إنسانًا وصار بعد ذلك
إلهًا، ولكنه الإله الذي تأنس حتى يؤلهنا... وكيف يتم التأله بدون الكلمة؟ إننا
ننال التبني والتأله بالكلمة."[4]
ونستطيع أن نفهم من كلمات أثناسيوس
النقاط الآتية:
·
في
الفقرة الثانية يتكلم عن التأله المرتبط ارتباط مباشر مع قبول النعمة بالشركة في
روحه، كما يوضح أنه كما أن الرب عندما تأنس لم يفقد ألوهيته، فأيضًا الإنسان عندما
يتأله لا يفقد إنسانيته.
·
في
الفقرة الثالثة يتكلم عن التأله المرتبط بقبولنا للكلمة المتجسد.
هذا ويقول الأب متى المسكين في تعليقه
على تعبيرات أثناسيوس:
"وواضح من
تعبيرات أثناسيوس من جهة (التأله) للطبيعة البشرية أنه يعني (الاتحاد بالله)
...كذلك من الواضح أنه يؤكد أن تأليه الإنسان لا يتم خارجًا عن المسيح، كما يستحيل
أن يكون عملاً قائمًا بحد ذاته، بل أن تأليه الإنسان يتم في المسيح... ولئلا يتوه
أحد في معنى (تأليه الإنسان) - الذي لا يفهم منه إلا انتساب الإنسان لله - ولئلا
يظن أحدًا أن (تأليه الإنسان) عمل يُخرج الإنسان عن إنسانيته أو يغير شيئًا من
طبيعته الإنسانية، يعود أثناسيوس ويوضح هذا الأمر هكذا..."[6] ، ثم يسرد
الأب متى المسكين العديد من الأقوال الأخرى التي تؤكد الفكرة.
وبهذا
يمكن للباحث في بداية البحث أن يؤكد على أن "تأله الإنسان" لا يُقصد به
أن يصير الإنسان الله، فهذا معنى بعيد تمامًا عن فكر أثناسيوس وعن فكر باقي الآباء
كما سنرى لاحقًا، ولكن يمكن أن نصف تعبير "التأله" أو
"الثيئوسيس" بما جاء في كتاب دراسات في آباء الكنيسة، إذ يقول: "الثيئوسيس
يمكن أن يوصف بأنه عمل الله المثلث الأقانيم، القوي والمقدس، الذي من خلال حلول
الثالوث والنعمة في الإنسان، وبسبب القدرة الطبيعية التي مُنحت للخليقة لتتجلى أي
لتكتشف مجد صورة الله الذي فيها، يمكن للشخص المؤمن أن يبلغ إلى التمثل والاقتداء
بالله، بتوسط الكلمة المتجسد، المسيح ضابط الكل، وبالروح القدس"[7].
الأساس الكتابي للثيئوسيس:[8]
هذا ويذكر كاتب دراسات في آباء
الكنيسة الأساس الكتابي للثيئوسيس، والذي نذكره في إيجاز، إذ يساعدنا على فهم
المعنى بصورة أوضح:
·
في
العهد القديم: خلق الإنسان على صورة الله ومثاله
(تك1: 26) وكل عطايا الله للإنسان هي بالنعمة، فالعقل والحرية والمحبة، التي هي
على مثال الله، عطايا نالها الإنسان من الله وهي لا تلغي محدوديته، لذا فإن تمثُل
الإنسان بالله دائمًا محدود بتعالي الله دائمًا عن الإنسان، وباتكال الإنسان على
الله، وحتمية طاعته وخضوعه لسلطان الله وسيادته.
ومن هذا المنظور يمكننا النظر إلى قصة
سقوط الإنسان على أنها قائمة أساسًا على محاولة الشيطان أن يحول "مُشابهة
الله" عند الإنسان إلى "مساواة الله" والانجذاب وراء هذا نتج عنه
السقوط، وهو بالطبع المعنى المرفوض للتأله.
هذا ويمكننا أن نرى مشاركة إنسان العهد
القديم في الحياة الإلهية في أخنوخ وإيليا اللذان صعدا إلى السماء وأحتضنا في مجال
الشركة الإلهية، وأيضًا في موسى المشارك لله في سلطان تعليم الشعب، الأنبياء
المُلهمون الذين تكلموا باسم الله، بل وفي جميع الشعب المدعو للقداسة والبر.
·
في
العهد الجديد:
من
خلال مفهوم التبني الواضح جدًا في الأناجيل (يا أبانا الذي...) ومن خلال صلاة يسوع
(كل ما هو لي فهو لك.. و أنا ممجد فيهم) يو17:10 (كما أنك أنت أيها الآب فيَّ و
أنا فيك ليكونوا هم أيضًا فينا) يو17: 21، ومن خلال كتابات بولس (فإنه فيه يحل كل
ملء اللاهوت جسديًا وأنتم مملوؤن فيه) كو2: 9، (لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله) أف3:
19، (الكنيسة التي هي جسده ملء الذي يملأ الكل) أف1: 23، ومن خلال كتابات بطرس
(شركاء الطبيعة الإلهية) 2 بط1: 4، ومن خلال كتابات يوحنا (مَن اعترف أن يسوع هو
ابن الله فالله يثبت فيه وهو في الله) 1 يو4: 15.
وعلى
هذا فإنه يمكننا إجمال كل هذه التعريفات في أن التأله هو الإتحاد بالله، الذي يظهر
في الكمال المسيحي الذي معه لا يفقد الإنسان إنسانيته.
ثالثًا: بعض أقوال الآباء عن التأله (
الثيئوسيس ):
- القديس
إيرينيئوس: ولد عام 135 م.
يقول: "إن الله في محبته غير
المحدودة صار على ما نحن عليه، لكي يجعلنا نحن على ما هو عليه" (1: 23: 5)
"لقد صار ابن الله إنسانًا، كي
يصير الإنسان إبن الله" (3: 10: 2)
"إن اتباع النور هو إشتراك في
النور" (4: 14: 1)
"المسيح كما قلنا وحد الإنسان
بالله...فهو لهذا السبب قد أتى، في كل الأجيال، ليعيد الكل إلى الشركة مع الله
" (3: 18: 7)
ويقول عن الهراطقة: "إنهم يسلبون
الإنسان صعوده إلى الله" (3: 19: 1,2)
- العلامة
كليمنضس السكندري: ولد عام 150 م.
في كتاب "ستروماتا" وتحت
عنوان الكمال المسيحي يقول:
"الكمال يُبلغ إلي منتهاه فقط
على أعلى مستوى من المعرفة، العارف الكامل لا يعود فى حاجة إلى المعلم البشرى،
لأنه قد صار مرتبطاً مباشرة بالله، من خلال الكلمة، وبالتالى صار فى أُلفة حقيقية
وصحبة مع الله. ارتفع فوق اهتمامات وشهوات هذا العالم، لم تعد لا هذه ولا تلك
تغلبه، بالرغم من أنه يظل يعيش فى حرية وبلا كبت فى هذا العالم . فهو لا يخشى ولا
يرتعب من الأمور المنظورة. ومن خلال التصاقه الداخلى بمشيئة الله يدخل خورس
الملائكة المسبحين باطنيا"ً.
وفي شرح الآية، من الموعظة على الجبل،
"كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم" (لو 6 : 36)، يقول كليمنضس تحت
عنوان مشابهة الله واصفًا المسيحى الناضج كمُقتَد ومُتشبِه بالله :
[لأن الناموس يدعو الإقتداء إتباعاً،
ومثل هذا الإتباع - على قدر طاقة الإنسان - يجعل من الإنسان مماثلاً للأصل]
فالتحول إلى المسيح سيؤدى إلى عدم
الفساد والخلاص.
وكلمنضس يستشهد بآيات من العهد القديم
ليشرح الآية الواردة فى 1كو 11: 1
"تمثلوا بى كما أنا بالمسيح" حيث يجد تعليمه عن الإقتداء بالمسيح
الذى يعنى التحول إلى مشابهة الله، حتى أن الإنسان يصير باراً و قديساً
"كونوا رحماء كما أن أباكم الذى فى السموات هو رحيم" بالحكمة.
والقديس بولس الرسول يضع هذه المشابهة
بالله "تمثلوا بى كما أنا بالمسيح"
كغرض للإيمان وكنهاية له، وهذا هو تحقيق الوعد بالحياة الأبدية.
وهكذا ينتهى كليمنضس من تعليمه بتأكيد
أن "غاية معرفة الخلاص
والمغفرة والنجاة من الموت هى بالنهاية (الثيئوسيس)". ولم يحجب
كليمنضس هذه الحقيقة حتى عن الوثنيين الذين لم يدخلوا الإيمان بعد، وهو يوجه خطابه
إليهم :
[كلمة
الله صار إنساناً، حتى يصير الإنسان مؤلهاً فيه].
- القديس
باسيليوس: ولد حوالي328 م.
يقول في سياق كلامه عن الروح القدس:
"كيف يمكن أن الذي يجعل الآخرين مؤلهين أن لا يكون هو نفسه إلهًا!"
والملاحظ أن باسيليوس كان يقول هذه
الكلمات في ظل حديثه عن
التقديس.
كما يقول أيضًا في رده على الحاكم:
"إنه لا يمكنني أن أنحني أمام مخلوق، طالما أنا مخلوق بيد الله، وقد أمرت أن
أصير به مؤلهًا"
- غريغوريوس
اللاهوتي: ولد عام 329 أو330 م.
يؤكد على قول باسيليوس "الإنسان
مخلوق لكنه أمر أن يكون مؤلهًا" ويقول أن هذا يتم من خلال جحد عالم المحسوسات
المادي والجهاد لمعرفة الله، ويقول أن البشرية تخلص من خلال الاتحاد بالله.
- غريغوريوس
النيصي: ولد عام 335 م.
يقول حول عرس النفس مع الله، أنه في
درجات التأمل العليا، تتحد النفس مع الله، وتصير مُشابهة له، وتعيش فيه."
إنها تصير مُشابهة لطبيعته غير المُدركة حينما تكون قد وصلت إلى الطهارة والسكون.
"هذا هو عرس النفس، أي الاتحاد غير الجسدي، الروحي، غير المادي مع الله، الذي
هو أعظم بركة وخير للإنسان..."
كما يتكلم عن غاية التجسد على أنها
القيامة وتأليه الإنسان، ويستخدم في هذا عدة ألفاظ مميزة، مثل: الاتحاد الوثيق،
والاختلاط والضم، المزج.
ومصدر خلاص الطبيعة البشرية عنده هو
الاتحاد بالله حيث يكتب: "الكلمة صار جسدًا بسبب محبته لجنس البشر، واتخذ
طبيعتنا حتى باتحادها باللاهوت ننال التأليه، وبهذه الطريقة تقدست كل عناصر طبيعتنا."
ولا يفوتنا هنا أن ننبر على العلاقة ما بين كلامه والتقديس.
- كيرلس
الكبير: ولد عام 380 م.
في سياق كلماته عن عمل الثالوث الأقدس
في تقديس الإنسان يقول: "إنه الروح الذي يوحدنا ويجعلنا متوافقين مع الله،
ونواله يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية، ويجعلنا ننال الابن، وبالابن ننال
الآب."
ويقول في نفس السياق: "الروح
القدس يعمل فينا بنفسه، إنه يقدسنا حقًا ويوحدنا بنفسه، وباتصاله واتحاده بنا
يجعلنا شركاء الطبيعة الإلهية."
وعن صيرورتنا شركاء الطبيعة الإلهية
يقول: "نحن نصير شركاء الطبيعة الإلهية. ولهذا - كما يقال - مولودون من الله
وقد دعينا "مؤلهين" وفقط بالنعمة أننا ارتقينا إلى هذه النعمة الفائقة
للطبيعة، فنحن نقتني الله ساكنًا وماكثًا فينا.. نحن هياكل الله، وذلك بحسب ما
قاله بولس، وذلك لأن المسيح يسكن فينا.
هذا وسنتعرض لأقوال أخرى لكيرلس
الكبير في ظل حديثنا عن الأب متى المسكين كنموذج للاهوتي مُعاصر شغله مفهوم التأله
في مختلف كتاباته.
رابعًا:
الأب متى المسكين كمثال للاهوتي معاصر تناول مفهوم التأله في معظم كتاباته:
الأب المتنيح متى المسكين عالم لاهوتى
جليل من مواليد 1919، عاش حتى السابعة والثمانين وله حوالى 181 مؤلف لاهوتى أكثرها
يعتبر مراجع أكاديمية.[9]
غاية التجسد عند متى المسكين هو
اتحادنا بالله الذى هو التأله والتبنى.[10]
واتحادنا بالله هو الخلاص "فإن
ما صار متحداً بالله هذا وحده يخلص".[11]
والتأله عند متى المسكين هو لفظ آبائى
أصيل وهو الحقيقة العجيبة التى وقف أمامها الآباء مدهوشين، وفى هذا يقول:
"الجسد - الترابى - أخذ الشركة فى طبع الكلمة " ... لقد كانت هذه
العبارة عينها "التبنى" مدهشة حقاً وعجيبة لدى المسيحيين الأوائل ويظهر
اندهاشهم أمامها من قول يوحنا الرسول "أنظروا أى محبة أعطانا الآب حتى نُدعى
أولاد الله... ولسنا نعلم ماذا سنكون (أى ما هى نهاية التبنى الذى دخلنا إليه)
ولكننا نعلم أنه متى أظهر ذاك (المسيح) فإننا سنكون مثله" (1 يو 3 : 1 ، 2)
سنكون مثله وهو الابن والإله والكلمة، بمعنى أننا سنأخذ شركة فى صفاته كإبن وإله
وكلمة، وهذا ما دعاه الآباء بالتبنى، وأحياناً بالتأله و"الشركة فى طبع
الكلمة"، كما رأينا فى القول السابق.[12]
كما أن متى المسكين لا يقف بمستوى
اتحادنا بالله على مستوى الوحدة الأدبية الأخلاقية الإرادية. بل يتخطى هذا المستوى
ليدخل إلى وحده كيانية "طبيعية" فى جسد واحد.[13]
وذلك فى تعليقه مثلاً على قول القديس
كيرلس الكبير : " من الخطأ أن نقول إن إتحادنا بالله لا يتجاوز مستوى الإرادة
معه، لأنه فوق هذا الإتحاد (إتحاد الإرادة) هناك إتحاد آخر أكثر سموًا وأكثر رفعة
يتم بعطية اللاهوت للإنسان، فمع أن الإنسان يحتفظ بطبيعته الخاصة، إلا أنه يتحول
بنوع ما إلى شكل الله نفسه ... هذه هى طريقة الإتحاد بالله، التى يطلبها ربنا من
أجل تلاميذه، وذلك بحلول اللاهوت فيهم و الشركة معه.[14]
وهذا الإتحاد يتم بواسطة الروح القدس،
الأقنوم الثالث فى اللاهوت المنبثق من الآب.[15]
فإذ يمتلئ الإنسان بالروح القدس. فإن
الروح القدس يحل فيه أقنومياً حيث يقول متى المسكين : " كان لا يمكن ولا
يستطيع التلاميذ أن يتقبلوا الطبيعة الالهية بدون المسيح بل ولم يكن ممكناً أن
يتقبلوا الروح القدس كأقنوم إلا على أساس الإتحاد بجسد المسيح."[16]
هذا و بينما يفرق آخرون بين الحلول
والإمتلاء فيقولون أن الحلول هو حلول أقنومى وهذا للمسيح فقط وأما الإمتلاء فهو
إمتلاء غير أقنومى.[17] نجد متى
المسكين لا يفرق بين الحلول والإمتلاء. بل أنه يستخدم الكلمتين بالترادف فنجده
يقول : "واستعابنا لقوة يوم الخمسين هو المعبر عنه بالملء من الروح القدس...
وهو يتم على ثلاث درجات أو ثلاث مراحل من الحلول." [18]
ويعترض تلاميذ متى المسكين على
التعليم الذى يُفرق بين الحلول الأقنومى والإمتلاء . حيث يقولون أن هذا التعليم
فيه خطأين مدمرين ويقودا للهلاك. الخطأ الأول هو أنه إذا كان المؤمن يمتلىء من
المواهب فقط ولا يحدث له حلول أقنومى. فإن المواهب ستبطل فى الأبدية، وهذا يعنى
فقط الشركة مع الله نهائياً بدون الحلول الأقنومى.
والخطأ الثانى أنه لا يمكن أن يعطى
الله شركة فى القوة (المواهب) فقط بدون شركة فى المحبة (الأقنوم).[19]
والحلول عند متى المسكين يتم على ثلاث
مستويات: الأول حلول الروح القدس بكلمة الإنجيل والثانى حلول بالأسرار والثالث
حلول بالصلاة.[20]
وبهذا يكون الباحث قد عرف ملخصاً
موجزاً لفكر الأب متى المسكين فى أمر التأله أو الثيئوسيس.
خامسًا: محاولة للربط بين التأله أو
الثيئوسيس في الفكر الآبائي وبين القداسة الكاملة أو الكمال المسيحي في الفكر
الوسلي:
العقيدة الميثودستية في الكمال
المسيحي:
عند فحصنا لعقيدة كنائس الميثوديست
وهي أحد الكنائس الممثلة للاهوت الوسلي في بلادنا، مصر، نجد في دستور الإيمان،
البنود التالية:
·
مادة
19 في التقديس: هو عمل النعمة التدريجي في النفس الذي يسمى التقديس التام، وبه
يخمد الإنسان العتيق، وهو يتبع التجديد وبه تنطفأ الميول الفاسدة وتموت تدريجيًا.
·
مادة
20 في التقديس الكامل: هو الاشتراك في الطبيعة الإلهية التي تطرد الفساد الأصلي أو
الخطية الأصلية من القلب، وتملأه بالمحبة الكاملة لله والناس وهو عمل الروح القدس
الذي به تموت الخطية بالتمام ويتطهر القلب تمامًا... وعندما تموت الخطية يتكمل
القلب في المحبة، وبدون هذا الإختبار لا يقدر أحد أن يعاين الله.
·
مادة
21 في القداسة: هي حالة القلب بعد تمام التقديس الكامل، وهى حالة النفس التى تضمن
استمرار التطهير من كل خطية فتمنح النفس كل الفضائل التى فى المسيح يسوع فنصير
كاملين كما أن ابانا الذى فى السموات هو كامل.[21]
والواضح أن مفردات
الإيمان الميثودستي لا تحتاج إلى تعليق لبيان علاقتها بالثيئوسيس.
وبالبحث نعرف ان هذا التعليم، التقديس
الكامل أو الشركة فى الطبيعة الألهية، هو تعليم وسلي أصيل، ولذا يجدر بنا أن
نتناوله من وجهه نظر جون وسلي نفسه و فى هذا نستعين بما كتبه ستيف هاربر[22] في شرحه
للاهوت وسلي, إذ يقول:
·
تعليم
الكمال المسيحي لا يمكن حذفه قط، من دراسة جادة للاهوت وسلي، ولا يمكن حذفه أيضًا
من تفسير أي اختبار مسيحي.
·
اختبار
الكمال المسيحي هو عمل من أعمال النعمة.
·
الكمال
المسيحي لا يعني الحصانة من مشاكل الحياة، أو العصمة.
·
ليس
الكمال المسيحي اختبار جامد يحدث مرة واحدة، و لكن وسلي وصفه بأنه حدث متميز في
ذاته، يحدث أثناء رحلة الإنسان... عندما تحدث وسلي عن الطبيعة الفجائية لاختبار
الكمال المسيحي أصر على توجيه الأنظار إلى التقدم الذي يسبق هذا الاختبار والذي
يأتي بعده.
·
الكمال
المسيحي يُشير إلى إكتمال قادم... عندئذ نستبدل الزائل بغير زائل... ويحتوي على
موعد المجد العتيد، ونحن إنما نسير في الطريق والنهاية هي بيت الله.
وحول هذا المفهوم أيضًا يقول القس
هورنر: "التقديس الكامل بحسب طرفه الإيجابى هو كمال ملء ثمر الروح... راحة
النفس فى ملء المحبة والفرح والسلام وطول الأناة والصلاح والوداعة والتعفف
والإيمان ... والبعض لا يعرفون إن كانوا هم الجسد أو خارجاً عنه، عندما يعلن الله
هذا المجد لنفسهم. نعم إنه ذهول غريب، لأنه إتحاد بالغير محدود والنصف لم يخبر به
وسوف يكشف فى الأبدية.[23]
ويمكننا أن نربط هذا الكلام، عن
القداسة الكاملة والشركة فى الطبيعة الإلهية بما جاء فى الحديث حول الثيئوسيس فى
كتاب دراسات فى آباء الكنيسة، إذ يقول الكاتب: "أن يحيا الإنسان حسب شريعة
الله، وأن يحيا الحياة الروحية، وأن يقترب من الله فهذا ليس بالأمر السهل... هذه
الحياة المستيكية والروحية والتقديس فى الحق، تقود الإنسان فى طريق الثيئوسيس...
إن ثيئوسيس الإنسان أو شركتة فى الطبيعة الألهية يستحيل البلوغ إليه بمجرد مشيئتنا
فقط أو محاولاتنا أو حتى من خلال ضيقات الحياة. إن النعمة المُقدسة هي العامل
الأساسي في تجديد حياتنا وإصلاحها."[24]
هذا ويمكننا تتبع فكر الكمال المسيحي
أو الاتحاد بالله أو الشركة في الطبيعة الإلهية، ليس فقط في العقيدة الميثودستية،
أو في الكتابات القديمة، بل أيضًا في بعض الكتابات الحديثة لكُتاب ينتمون إلى
اللاهوت الوسلي، مثل ما جاء في كتاب بناء الهيكل الأبدي للقس صموئيل مشرقي، راعي
كنيسة الله الخمسينية، إذ يقول: "فى هذه المدينة التى هى "الهيكل
الأبدى" وعروس المسيح" معاً يتم إتحاد جميع المفديين المعتمدين بالروح
القدس بعضهم ببعض وأيضاً بالله والخروف، وهما "هيكل المدينة" .. ويقينا
أننا لا نتحد بالمسيح إلا عن طريق الروح القدس، كما أننا بالمسيح نتحد بالله الآب،
وعلى هذا المنوال يكون الجميع واحداً وذلك بحسب قول السيد "كما أنك أنت أيها
الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا." (يو 17 : 21)
فعن طريق انسكاب روح الله علينا يتكمل
الأتحاد وتتم الشركة بيننا وبين الله ونوهب الشركة فى الطبيعة الإلهية ويصير لنا
بذلك الخلود المزمع أن يمنحه لنا بالحق وإلى الأبد عند مجيئه بتكميل شركة اتحادنا
مع الله الآب فى هذا الهيكل الأبدى. وليس معنى ذلك أن تألهنا بمعنى أننا تحولنا
إلى آلهة أو أن الطبيعة البشرية قد صارت طبيعة إلهية، ولكنه إتحاد يؤهل الطبيعة
البشرية للحياة مع الله بعد رفع حاجز الخطية نهائياً وإلغاء وجودها بالنسبة
للمفديين أبدياً، وذلك عند القيامة الأولى وتغيير الأجساد..
ورغم أن التأله فى هذا المفهوم - أى
الإتحاد بالله - هو الغاية النهائية التى لا يمكن أن تكمل لنا إلا فى القيامة، إلا
أنه فى نفس الوقت حصيلة الإيمان والجهاد الذى ينبغى أن يكمل هنا فى هذا
لدهر..."[25]
الخاتمة:
وهكذا، إستعرض الباحث فى ورقة البحث
هذه، مفهوم التأله أو الثيئوسيس آبائيًا، فهو يعنى الإتحاد بالله بدون أن يفقد
الإنسان إنسانيته أو مكانته كإنسان.
كما عرض الباحث باقة من أقوال الآباء،
مركزًا في معظمها على قرينة التقديس.
وتناول متى المسكين كنموذج للاهوتي
معاصر، يقع فكر التأله في مركز معظم كتاباته.
وأخيرًا، طرح الباحث فكرة للمناقشة،
ألا وهي علاقة مفهوم القداسة الكاملة أو الكمال المسيحي في اللاهوت الوسلي،
بالتأله أو الثيؤسيس في الفكر الآبائي.
لنصلي أن نحيا ونختبر.. أن نتذوق
ونُشبع بمجد إلهنا..
يا روح الله... تعال لتوحدنا بذاك
الذي وحدنا بنفسه في موته وقيامته ورفعته وجلوسه..
يا روح الله تعال فنحيا سماءك على
الأرض.. نطلبك.. مَجِد يسوع فينا..
كم نشتاق لك.. إلمسنا بقوتك.. إلمسنا
بحبك.. فنطرح الكل.. لنفوز بك..
نلقي التبر على تراب الأودية.. وتكون
أنت التبر..
يا مَن أحببتنا.. وشفيتنا.. ورفعتنا..
وأجلستنا.. وجعلتنا ملوكًا وكهنة لله أبيك..
نحبك يا ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع
الناصري..
بقلم دكتور/ ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت (PhD) - جامعة ريجينت، فرجينيا
[1] القديس أثناسيوس الرسولي, تجسد الكلمة, نقله إلى العربية القمص مرقس
داود ( القاهرة: دار النشر الأسقفية, 1978), ص137
[2] جورج حبيب بباوي, القديس أثناسيوس الرسولي في مواجهة التراث الديني
الغير أرثوذكسي(القاهرة: أسرة القديس كيرلس عمود الدين الإكليريكية,1985), ص133
[9]صموئيل روبنسون, تأثير كتابات الأب
متى المسكين على تطور الكتابات اللاهوتية في الكنيسة القبطية, ترجمة دار مجلة
مرقس( القاهرة: دار مجلة مرقس, 2006)
[10] رهبان دير الأنبا مقار, المسيح المخلص في تعليم و كتابات أثناسيوس(
وادي النطرون: دار مجلة مرقس,2004) ص 51, 74
[11] رهبان دير الأنبا مقار, وجودنا و كياننا في المسيح في فكر كيرلس
الكبير( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,1994) ص9
[12] رهبان دير الأنبا مقار, التبني في المسيح يسوع في فكر آباء الكنيسة(
وادي النطرون: دار مجلة مرقس,1994)ص15
[13] رهبان دير الأنبا مقار, الكنيسة جسد المسيح السري في تعليم كيرلس
الكبير( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,1993) ص13
[16]متى المسكين, التجسد الإلهي في تعليم
كيرلس الكبير ( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,1988) ص 25
[19] رهبان دير الأنبا مقار, الأصول الأرثوزكسية لكتابات الأب متى المسكين-
الكتاب الثاني( وادي النطرون: دار مجلة مرقس,2003)ص51,52
[20] متى المسكين, المرجع السابق ص29
[23] القس هورنر، كتاب الأقوال الجلية فى إيضاح حقيقة الخطية الأصلية و
الخطية الوراثية ( أسيوط: المطبعة الأهلية بأسيوط,1910) ص101,102
-------------------------------------------------------------------------------------------------
التجسد الإلهي وسقوط الإنسان...
تفنيد لعبارة: " لو لم يخطيء الإنسان، لما حدث التجسد...."
بقلم دكتور/ ثروت ماهر
دكتوراه في اللاهوت (PhD) - جامعة ريجينت، فرجينيا
المقدمة:
هل خطية الإنسان هي ما دفعت الله ليتجسد؟! هل لولا الخطية، لما تجسد الكلمة؟!... هل التجسد الإلهي حدث يَفتَرض سقوط الإنسان كشرط مُطلَق لحدوثه؟!!
أسئلة محيرة تدور كلها حول ذات الموضوع وحول نفس الأطروحة... هل لو لم يخطيء الإنسان، لما حدث التجسد؟! على الرغم من أن لاهوت الآباء في القرون الأولى لا يواجه هذا السؤال الافتراضي[1]، إلا أنه سؤال موجود على مر السنين. ولطالما اقترب كثيرون من هذا السؤال سواء بأفكار لاهوتية مُنظمة أو بفضول طفولي تثيره أسئلة محيرة!!...
وما بين هؤلاء وأولئك... وما بين صوت مُعلمي مدارس الأحد الذين يصفُون الإنسان وهو يقع في الخطية، ويُصورون الله هذا الإله المُحب المُتحير الذي يبحث عن حل لمعضلة موت الإنسان وانفصاله عنه، ويجد هذا الحل في التجسد.. وما بين صوت الأفكار التي ترفض أن الله وقع في مشكلة فجائية، فاضطر إلى التجسد، وكأن التجسد ما كان سوى الحل الإجباري الذي فرضته المحبة الإلهية.. ما بين هذا وذاك... يأتي هذا البحث!!
السطور الآتية لتفنيد عبارة "لو لم يخطيء الإنسان، لما حدث التجسد".. يعمل هذا المقال اللاهوتي على إثبات عكس هذه الأطروحة. أي يعمل لإثبات أن التجسد حدث لا يفترض سقوط الإنسان كشرط مُطلق له. فمن خلال قراءة لبعض الأفكار اللاهوتية للاهوتيين معاصرين، يحاور هذا المقال لإثبات أن التجسد هو مشيئة إلهية أصلية، وليس حل لمشكلة فجائية، فهو الخطة الأصلية التي وضعها الله ليبلغ بالإنسان إلى التأله (لقراءة المفهوم الآبائي عن التأله، راجع مقال: التأله في الفكر الآبائي).. نعم جاءت الخطية بالموت للإنسانية كحدث لا يريده الله، ولكنها لم تنجح في أن تمنع الله من أن يصير إنسانًا. بل على العكس صار إنسانًا، وهزم الخطية والموت، أباد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت.. وأنار الحياة والخلود.. وفتح الباب لتأله الإنسان!!
التجسد والعهد:
"لو لم يخطيء الإنسان، لما حدث التجسد..."
هذه العبارة إنما تُعبر عن فكر معروف ومُنتشر وله مدارسه اللاهوتية التي تضع عقيدة المصالحة دائمًا بعد عقيدة الخطية[2]... فالترتيب النظامي لهذه المدرسة اللاهوتية هو: (الخطية--< الاحتياج للمصالحة--< التجسد والمصالحة(...
ولكن الحقيقة أن كارل بارت اللاهوتي السويسري إنما يدخل بنا إلى ترتيب آخر.. فهو لا يضع عقيدة المصالحة (التجسد) بعد عقيدة الخطية، وكأن الخطية هي السبب الذي يضطر الله لعمل شيئًا ما. إنه يقلب هذا النظام.. ففي مفهوم بارت: "إختارت الإرادة الإلهية (المسيح) قبل كل الأزمنة لكي يُنجز هذه الخطة الأزلية بين الله والإنسان.." وهذه الخطة هي خطة الصداقة أو العهد "سأكون إلهكم".. وهذا هو القصد الإلهي السابق الذي استَلزَم اتمامه عملية المصالحة التي تم أنجازها في التجسد. لأن المسيح، الكلمة المتجسد، بحسب الاختيار الأزلي قد تحمل مسئولية استمرار العهد، فقد أكمل عمل المصالحة، في تجسده وموته وقيامته، فالخطية لم تكن إذا هي السبب في التجسد، ولكنها كانت "فرصة" فقط لاستعلان قوة العهد الذي بسببه أخذت المصالحة مكانها في التجسد!! وعلى هذا، فالهدف الأصلي في المصالحة ليس علاج الخطية، مع أن علاج الخطية مُتَضَمَن في المصالحة، وإنما الهدف الأصلي في المصالحة هو تأسيس العهد من جديد، العهد الذي كسرته الخطية، وهذه الأخيرة (الخطية) لا تشغل إلا المكان الثاني في خطة المصالحة. فإنّ الله قد صار إنسانًا لأنه، أولاً، يريد أن يكون مع الإنسان، فقد اختار الإنسان ليكون شريكًا له في العهد، وهكذا ولأجل هذا العهد الذي قُطع قبل تأسيس العالم، قام يسوع بعمل المصالحة. وعلى هذا وبحسب فكر بارت، التجسد كان خطة الله الأزلية.[3]
التجسد، والخلق والإعلان:
ولكن رُبَ قائل ٍ، ما الذي يُرجِح العهد أو الصداقة كخطة أزلية أن تحرك الله للتجسد، ولما كان الاحتياج للتجسد لو لم تكن خطية؟!!
وللإجابة على هذا السؤال، لنرجع مرة أخرى إلى قصد الله المُعلَن من الخلق والذي يوضحه بارت في عقيدة الخلق، حيث يوضح أن جوهر الخلق هو العهد.. فالخلق في حد ذاته هو وعد بالعناية، وانتظار للعناية لا يقبل الجدل!! فالعهد هو الأساس الداخلي للخلق، وحقيقة كون العهد هو هدف الخليقة ليست شيئًا مُستحدثًا أضيف فيما بعد لحقيقة الخلق. فمع أن الخليقة تسبق العهد تاريخيًا، إلا أن العهد يسبقها في الجوهر.[4] وهذا يأتي بنا إلى ماهية هذا العهد، إنه عهد صداقة وحب.. الله يريد أن يدخل مع الإنسان في علاقة صداقة[5].. علاقة تعارف حميمة.. فالذين سبق فعرفهم (رو٨׃ ٢٩)، يريد أن يعرفوه كما عُرِفُوا (١كو١٣: ١٢)... وفي رغبة الله هذه في الإعلان عن ذاته، خلق الإنسان بكيفية تحمل القدرة في تركيبه لإمكانية سماع الله، أو كما يتكلم اللاهوتي الكاثوليكي كارل رانر عن الإنسان ويقول، إن الإنسان مخلوق بهذا المُكون الرئيسي، ألا وهو الانفتاح على الإعلان (الذي هو الله ذاته، فالله يعلن عن ذاته بأن يقدم ذاته). ويُسمِي رانر هذا بالطبيعة. كما أنه يقول أن لدى الإنسان القدرة على قبول تجلي الله في ذاته في الكلمة، وهذا ما يسميه رانر بالنعمة.[6]
وعلى هذا، إن كان الله قد خلق الإنسان هكذا، فبالتأكيد فإن الله يريد لهذا الإنسان أن يعرفه معرفة حقيقية، وإن كنا نُقر ونعترف بأن كمال إعلان الله عن ذاته هو في المسيح، الكلمة المتجسد، فهل غابت هذه الحقيقة عن الله في الأزل؟!! بالطبع لا!! وهذا يؤدي بنا إلى نتيجة مؤكدة، وهي أن الله حتمًا كان في خطته أن يُعلن عن نفسه بأكمل إعلان في المسيح، الكلمة المتجسد، وذلك حتى لو لم يخطيء الإنسان!!
فالله قصد أن يدخل مع الإنسان في علاقة عهد، فيها يعلن عن نفسه بأكمل طريقة، وتفعيل هذه العلاقة في أكمل صورها هو التجسد.. لذا فالتجسد هو القصد الأزلي!! ولكي يدخل الله في هذه العلاقة ويتم القصد، بحسب بارت، كان لابد أن يكون هناك بيئة ووسط، لذا كان الخلق!!
التجسد وسقوط الإنسان:
وإذ نصل إلى هذه النقطة، فمن البديهي أن نتساءل عن هذا العنصر الدخيل الذي اقتحم قصة العهد والتجسد، ألا وهو الخطية!! بالطبع لم يقصد الله للإنسان أن يخطيء. والله غير مسئول عن الشر أو الخطية. فالشر كما يقول بارت هو الشيء الذي لم يختاره الله. ولكن خلق الله الإنسان، والحرية عنصر أساسي في تكوينه، والحرية تحمل إحتمال الخطأ. وقد أخطأ الانسان! ولكن الخلق جوهره عهد، والعهد اختيار الله للحب وللحب فقط، والحب يعني البذل والفداء، يعني أن يموت الطرف الأول في هذا العهد، إن استلزم الأمر وقد استلزم!، نيابة عن الطرف الثاني، لتستمر المعاهدة، ويُصلَح العهد بدم العهد الجديد...
وعلى هذا فالتسلسل هو، علاقة عهد وصداقة، وفي مركز هذه العلاقة تستقر أزليًا مشيئة التجسد كقمة التعبير عن الحب والرغبة في الاتحاد، وكقمة الإعلان عن الطرف الأول للعهد، الذي هو الله، للطرف الثاني الذي هو الإنسان. ثم كانت الخطية والموت، كعامل دخيل على الخطة الأصلية، أخذت مكانها بسبب استخدام الإنسان لحريته بطريقة خاطئة. ولكن رغم دخول الخطية والموت، إلا أنها لم تنجح في أن توقف شريك العهد عن استعلان حبه وأمانته، بل صارت فرصة لهذا الاستعلان!
التجسد والشركة في الطبيعة الإلهية:
وقد يسأل أحدهم، ولِمَا التجسد هو الوسيلة الوحيدة لإتمام علاقة العهد هذه؟! والإجابة تكمُن في أن الإنسان لا يستطيع بطبيعته أن يُشارك الله مُشاركة الاتحاد، وذلك لأنه بالطبيعة، قبل السقوط، محدود وليس خاطيء. وعلى هذا فإن طبيعته المحدودة هذه تحتاج لتدخُل إلهي من نوع خاص ليرتقي بهذا الانسان إلى المكانة التي تجعله يشارك الله. وهذه المكانة هي في الله نفسه (في المسيح).. وهذا يفهمنا لماذا التجسد هو الوسيلة الوحيدة لإتمام علاقة العهد، حتى بدون وجود الخطية!!..
وفي أمر ترقينا في الكلمة المتجسد، يقول القديس هيلاريون أسقف بواتييه، من القرن الرابع: "وُلِد الله لكي يأخذنا في نفسه فنصير داخله"[7]. ويجب أيضًا الإشارة إلى هذا المقطع الرائع الذي تردده الكنيسة الأرثوذكسية في ثيؤدوكية الجمعة "لقد حل فينا كلمة الله لكي يرفع الذي بلا كرامة إلى رفعته هو الخاصة.."، وأيضًا قول القديس أثناسيوس "لأنه صار إنسانًا لكي نصير نحن إلهًا"[8]. فالتجسد يعني دخول الإنسانية في دائرة الألوهة. وكما تجسد ابن الله بدون ان يفقد ألوهيته وبدون أن يفقد كونه خالقًا، هكذا في المسيح يتأله الإنسان بدون أن يفقد إنسانيته وبدون أن يفقد كونه مخلوقًا.
وإذ اقتحمت الخطية العالم، لم يُفاجَأ الله، ولم تفسد خطة العهد!! فعلى الرغم من أن سقوط الإنسان كان يعني الحكم بالموت على الجنس البشري كله، وكان هذا يعني حدوث خلل، وهمي، في خطة التجسد، إلا أن هذا لم يوقف الله الذي يحب بلا حدود، والذي يريد بلا حدود أن يُصَادِق هذا الانسان ويشاركه. وهكذا سقوط الإنسان والحكم عليه بالموت لم يمنع الله أن يأخذ مكان الانسان ليصبح هو نفسه محكوم عليه بالموت، هذا الموت الذي كان لابد أن يجتازه الانسان، وقد اجتازه الكلمة المتجسد، وهزم الموت لصالح الإنسانية كلها... وهكذا انتصر العهد وفُتِح الطريق أمام الانسان للحياة والخلود... وهذا يشرح حقيقة "الله معنا" أو "الله لأجلنا"!
التجسد ، والتبرير والتقديس:
وإذا نظرنا في عقيدة الخلاص نفسها، نجد أن التبرير والتقديس يعودا بنا لنفس النتيجة، وهي إرادة الله الأزلية لعلاقة العهد. فعمل الكفارة الإلهية، بحسب بارت، لا يشمل فقط على تبرير الإنسان (الحكم بالبراءة)، لكنه يشمل أيضًا على التقديس أو التخصيص. فتبرير الإنسان يُساوي "أنا سأكون لهم إلهًا"، وتقديسه يُساوي "وأنتم تكونون لي شعبًا". فإن كان الخلق عند بارت، هو للدخول أساسًا في عهد، ولكي يدخل الإنسان في هذا العهد، لابد أن تُرفَع امكانياته وتُرقّى للمشاركة في الألوهة وذلك لا يحدث إلا بتجسد الكلمة، الأمر الذي يؤيده أيضًا الكثير من آباء الكنيسة. فإن التقديس عند بارت، هو عملية خلق جديدة، لنفس الغرض، ألا وهو الدخول في العهد. وعملية الخلق الجديدة هذه تقوم على أساس واحد وهو التبرير (الحكم بالبراءة) الذي يناله الإنسان فقط بموت المسيح نيابة عنه. فالتبرير هو تصحيح للوضع..
التجسد واختيار الله المُطلَق:
وعلى هذا فإنه يتضح لنا أن التجسد كان في فكر الله أزلاً، وأنه حتى لو لم يخطيء الإنسان.. لحدث التجسد.. فالتجسد هو اختيار الله الأزلي وقصده، وكما يقول جيمس أنس "إن الله قصد كل ما قصده باختيار، لا عن اضطرار"[9]. فاختيار الله دائمًا اختيار مُطلق، لا يتوقف على أمر آخر، وخصوصًا إذا كان هذا الأمر هو "الخطية"، التي هي العدم، الذي يكتسب وجوده أصلاً من "اللا" التي في أنّ الله "لا" يريده!! وكما يقول الرسول بولس بالروح القدس "الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته" (أف١׃ ١١).. وليس كرد فعل، لفعل كينونته في الأصل سلب[10].
الخاتمة:
والآن، دعنا نفكر معًا في نهاية حديثنا، ما الذي يغيره هذا الفهم في حياتنا كأفراد وكنيسة؟! الحقيقة أن لهذا الفهم ولهذا البناء اللاهوتي لفائدة عظيمة في حياتنا العملية واليومية كأفراد يشكلون الكنيسة، كنيسة يسوع المسيح. فكم من مرات نشعر فيها بالخجل من أنفسنا عندما نتأمل ضعفاتنا وسقطاتنا؟ وكم من مرات يقودنا هذا الخجل إلى الابتعاد عن عرش النعمة.. مما يسوقنا إلى ضعف أثقل وجفاء أعمق؟!! ولكن أليس بتأملنا في هذا الإله العجيب الذي أحب وقرر أن يدخل في علاقة صداقة منذ الأزل، من قبل أي شيء، وهو يعلم ضعفاتنا، أليس في تثبيت عيوننا على هذا الإله المُحب، قوة وتشجيع لنا أن نمد نحن أيضًا أيادينا؟!! أليس في معرفتنا أن الخطية والموت لم يوقفا هذا الإله عن قصده بل أصر أن يقتحم ليس فقط عالم الأحياء، بل عالم الموت أيضًا، لكي يدوس بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، وذلك أيضًا لأجلنا ولأجل هذه العلاقة الحميمة، أليس هذا أمر يجعلنا نتخطى بالروح القدس كل ضعفاتنا وموتنا لنطلب معونة هذا الإله المُحب، ولنطلب ملء روحه الذي يشتاق أن يملأنا به، لندخل إلى عمق الشركة والاتحاد معه؟!.. ليت الرب يعطينا روح الحكمة والإعلان في معرفته، لنعلم ما هو رجاء دعوتنا، وغنى مجد ميراثه في القديسيين..
ثروت ماهر
القاهرة/ ٢٠٠٣
[1] استقلال التجسد الإلهي عن سقوط الإنسان، إيروثيوس فلاخوس. تعريب انطوان ملكي. (http://www.orthodoxlegacy.org/VlachosIncarnation.htm)
[2] جيمس أنس، علم اللاهوت النظامي. ترجمة منيس عبد النور. (القاهرة: الكنيسة الإنجيلية لقصر الدوبارة، ١٩٩٩).
[7] On the Trinity Book 9:7
[8] Incarnation of the Word 45:3