مِن ثِمَارِهِم تَعرِفونهُم - جديد

 
 
 
۱- ضبط النفس...
القراءات الأساسية: غلا ٥: ٢٢، ٢٣
"وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح ايمان وداعة تعفف..."
 
-      الكلمة (تعفف) في الأصل اليوناني يمكن ترجمتها (ضبط النفس- زهد- اعتدال)... وهي تعطي في الأصل معنى المنع، والاجتهاد في السيطرة على النفس.
نظرًا لأن المعنى اليوناني لا يحمل سوى معاني المنع والزهد، فإن الكثيرين لا يعرفون عن ضبط النفس سوى أنه اجتهاد منع (راجع درس النعمة والاجتهاد- http://khwaterro7ya.blogspot.com/p/blog-page_5439.html).... وهذا بالطبع معنى صحيح، ولا يستطيع أي دارس للعهد الجديد أن يتجاهله.. فبولس نفسه يؤكد هذا المعنى في رسالته الأولى إلى كورنثوس، والإصحاح التاسع، من العدد ٢٤ إلى ٢٧، إذ يقول:

"ألستم تعلمون أن الذين يركضون في الميدان جميعهم يركضون ولكن واحدًا يأخذ الجعالة. هكذا اركضوا لكي تنالوا. وكل مَن يجاهد يضبط نفسه في كل شيء. أما أولئك فلكي يأخذوا إكليلا يفنى وأما نحن فإكليلاً لا يفنى. إذا أنا أركض هكذا كأنه ليس عن غير يقين. هكذا أضارب كأني لا أضرب الهواء. بل أقمع جسدي وأستعبده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا.."
-      وعلى الرغم من هذا المعنى الواضح الذي يجعلنا ننظر لضبط النفس على أنه احتهاد منعي، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل أن ضبط النفس أو التعفف هو أحد ثمار الروح القدس.. أي أنه ثمرة تظهر فينا وتنمو وتنضج بفعل الامتلاء بالروح القدس.. وهذا يضع ضبط النفس ضمن الاجتهاد الإيجابي أيضًا، وليس فقط الاجتهاد المنعي.
(ملحوظة: الاجتهاد الإيجابي هو اجتهاد الإنسان بالروح القدس لفعل أشياء معينة مثل الصلاة وقراءة الكلمة... أما اجتهاد المنع أو الاجتهاد المنعي فهو اجتهاد الإنسان بالروح القدس ليمنع نفسه عن فعل أشياء مثل الهروب من الشهوات الشبابية وتجنب المحادثات الغبية...)

و
هذا يعني أن ضبط النفس لا يعني فقط أني أمنع نفسي عن أشياء، ولكن يعني أيضًا أني أجتهد لضبط نفسي لكي أفعل أشياء أخرى تجعلني ممتلئ بالروح، فينتج عن هذا الامتلاء بالروح مقدرة حقيقية على ضبط النفس كزهد ومنع واعتدال بحسب قلب الرب!! ولتقريب هذا المعنى، نأخذ الجهاز المناعي في الجسم كمثال: الجهاز المناعي في الجسم وظيفته الأصلية منعية، أي أن يمنع الميكروبات والفيروسات التي تهاجم الجسم من أن تصنع أي أذى لجسم الإنسان. ولكن على الرغم من أن وظيفة هذا الجهاز هي وظيفة منعية من الطراز الأول، إلا أن ما يجعل هذا الجهاز يعمل بكفاءة هو نوعية الغذاء والتغذية الصحية للجسم.. أي أن رغم أن وظيفة هذا الجهاز منعية، إلا أنه يعمل بكفاءة من خلال عمليات إيجابية مثل التغذية الصحيحة...
- هكذا ضبط النفس أو التعفف، فعلى الرغم أنه اجتهاد منعي، إلا أنه يعمل بكفاءة من خلال عمليات وأفعال إيجابية، وهذا ما أطلق عليه ضبط النفس الإيجابي..
- ضبط النفس الإيجابي: ليس إني فقط أضبط أو أمنع نفسي عن أشياء، لكن إني أفعل أشياء أخرى، يكون نتيجة فعلها هو إني أجد قوة روحية حقيقية بداخلي تساعدني لأسيطر على نفسي في الأشياء التي أريد السيطرة عليها بالمنع أو الزهد أو الاعتدال..
- مركزية عمل دم المسيح في ضبط النفس: دم الرب يسوع هو قوة حقيقية تضبط قوى النفس. الإيمان بعمل الدم الثمين في التقديس يجعل النفس تنفتح على قوة الروح لضبط النفس.
- عدم إدراك هذه الحقائق يجعل كثير من المؤمنين ينهزمون في دائرة ضبط النفس، إذ أنهم يركزون على الجانب المنعي، ويجتهدون في مرات وبأمانة لكي يمنعوا أنفسهم من أشياء، ولكن يجدوا أنفسهم غير قادرين على الاستمرار، وذلك لأنهم لم يسلكوا في جانب ضبط النفس الإيجابي (الموازي للتغذية في جسم الإنسان)... وهذا يشبه جسم إنسان يريد أن يُشغِل جهازه المناعي بأقصى طاقة ولكن بدون أن يأخذ كفايته من التغذية السليمة!!... وذلك لأنهم لم يدركوا أن ضبط النفس هو عملية ضبطية حقيقية تشمل اجتهاد إيجابي يُضاف فيه قوة للإنسان الباطن تظهر نتيجته في نجاح الاجتهاد المنعي!!..
- لتوضيح هذه الفكرة أكثر، سنأخذ عدة أمثلة لجوانب في حياتنا ودوائر نحتاج فيها لضبط النفس. وسنرى كيف أن ضبط النفس الإيجابي يساعد حقًا في ضبط النفس المنعي.
وبصفة عامة يمكننا تقسيم الأمور التي نحتاج فيها لضبط النفس في حياتنا إلى:
-      الحواس والوظائف: فجميعنا يحتاج إلى ضبط حواسه، كضبط النفس فيما نسمعه، وفيما نراه ونشاهده خاصة مع وجود القنوات الفضائية والانترنت، وكضبط النفس فيما نقوله ونتكلم فيه...
-      الانفعالات والغرائز: فجميعنا يحتاج إلى ضبط انفعالاته، كضبط النفس في انفعالات الغضب والحزن، وجميعنا يحتاج إلى ضبط النفس في الغرائز كالجوع والجنس...
-      ما فوق الخط اليومي الطبيعي: فجميعنا يحتاج إلى ضبط النفس في احتفالات الزواج، وأعياد الميلاد، وحفلات وداع الأصدقاء قبل الهجرة، واحتفالات النجاح والتخرج...
-      الأحلام المستقبلية ورؤية الهوية والتعبير عنها: ما نحلم به لأنفسنا ولعائلاتنا يحتاج أن يُضبط بالروح القدس... رؤيتنا لهويتنا الشخصية ولهوية عائلاتنا، والتعبير عن هذه الهوية يحتاج أيضًا أن يكون منضبطًا بالروح القدس.
 
أمثلة على ضبط الحواس والوظائف:
- السمع: لكي تُضبَط الأذن لمنعها عن سماع أحاديث النميمة، أو القصص التي لا تخص السامع، أو الكلام القبيح... إلخ لابد أن تُضبَط الأذن على سماع صوت الله باستمرار.. والتدريب على سماع صوت الله يبدأ بالتركيز اليومي على علاقتي بكلمة الله، بالكتاب المقدس.. فمن خلال قراءتي للكتاب المقدس، سيبدأ إنساني الداخلي يدرك صوت الرب ويعرفه ويميزه.. وهذا سيجعلني قادرًا على تمييز صوت الرب عندما يكلمني في قلبي حتى وسط ضوضاء الحياة اليومية... وعندما تُضبَط أذني ضبطًا إيجابيًا.. وتمتلئ يوميًا من سماع صوت الرب.. الصوت الحلو الرقيق المُشبع.. سأجد قوة في داخلي لرفض سماع أي أمور سلبية.. فالأذن التي امتلأت بكلمات الرب، لا تحتاج ولا تجوع لأي كلمات ليس لها نفع... وسأجد أن ضبط نفسي فيما أسمعه صار أسهل.. بل أنّ في مرات سأسمع صوت الروح مُحذرًا لي من أحاديث سلبية قبل حتى أن تبدأ، وسأجد بداخلي القوة لتجنبها..!!
- النظر والمشاهدة: لكي تُضبط العين لمنعها عن النظر لاشتهاء ما للآخر، أو لمنعها عن التركيز في رؤية المشاهد الإباحية.. إلخ
لابد أن تضبط العين على رؤية الله، أو كما يسميها الآباء انفتاح العين للرؤية والتأمل أو الثيئوريا.. العين المُدربة على رؤية الله في الصلاة القلبية، تستطيع أن ترفض بسهولة رؤية أمور العالم، وتستطيع أن تحيا في انضباط حقيقي...
كم نحتاج في هذه الأيام أن نُشفَى داخليًا، بالشبع من الرب شخصيًا... كم نحتاج أن نتأمل حضوره ونسمع صوته، ونتحدث معه.. فتُشفَى حواسنا.. ونجد ثمرة ضبط النفس ظاهرة فينا بالروح... آه يا رب اشفني فأشفى.. توبني فأتوب...
أمثلة على ضبط الانفعالات والغرائز:
الغضب: الغضب هو انفعال يُظهره الانسان تعبيرًا عن القوة الغضبية الداخلية. والقوة الغضبية هي قوة داخلية في النفس ليس لها علاقة بالسقوط، بدليل أن المسيح كان يغضب، إذ يخبرنا الكتاب أن الرب يسوع "نظر حوله اليهم بغضب حزينا على غلاظة قلوبهم" (مر٣׃ ٥).. كما أظهر المسيح غضبه في الهيكل عندما طرد الباعة والصيارفة.
وأظن أن آدم وحواء قبل السقوط كان يمكنهم أن يغضبا على الحية عندما نسجت خطتها لتسقطهما!!
ضبط القوة الغضبية: بتوجيهها في الاتجاه الصحيح.. غضب على الخطية، وعلى محاولات العالم لاقتناص المؤمن.. غضب على العدو يظهر في الحرب الروحية.
الجنس: رغبة عميقة في الاتحاد بآخر.. هذه الرغبة تُضبَط باتحادي مع الله... يقسم بعض الآباء واللاهوتيين الصلاة إلى مستويين، الأول مستوي الطلب والسؤال، والثاني مستوى الاتحاد..
مَن يختبر الاتحاد بالله، يصير قادرًا على ضبط رغبته في الاتحاد بآخر...
ما فوق الخط اليومي الطبيعي:
هل أختبر الفرح الفائض في محضره؟ هل أشبع بالفرح وأُغمَر حتى أصير محمولاً بالروح؟! هل فاض فرحه في داخلي في مرات حتى الرقص؟!
الأحلام المستقبلية ورؤية الهوية والتعبير عنها: هل أرى هويتي الحقيقية في محضره كملك وكاهن؟ هل أرى عائلتي وأفراد بيتي بهويتهم الروحية الحقيقية؟ (راجع: استعلان الهوية والامتلاك: http://khwaterro7ya.blogspot.com/2011/08/blog-post.html)
هل انفتحت عيناي في مرات لأدرك الجود الذي يذخره الرب لمستقبلي ومستقبل عائلتي؟؟؟؟
يا سيدي الرب... كم أحتاجك!! حقًا كم أحتاجك!!
أنت الضابط الكل.. لا يعسر عليك أمر!!
ها أنا أمامك لتضبطني..
املأني بروحك.. فيُثمر روحك القدوس فيّ تعفف..ضبط نفس..
اجذبني لأوقات أقضيها معك..
أسمعك.. فتُضبَط أذناي.. أراك.. فتنضبط عيناي..
أتكلم معك إلهي.. ويصبح روحك حارسًا لشفتاي..
أتحد بك... فلا أجوع لآخر..
ويصبح اتحادي بالآخر.. عطــاء.. وليس أخذ!!
أفرح بك.. وأرقص في محضرك مثل داود!!
أراني بعينيك.. فلا أعطش لهوية أخرى..
أرى مستقبلي بعينيك.. فأثــق وأفرح وأسلمك الكل..
يا مَن أحببتني حبًا عظيمًا ليس له حدود..
أعطني أن أحبك، وأضبط نفسي لأجلك..
لأنك ذقت الموت لأجلي..
كي لا أعيش فيما بعد لنفسي.. لكن لك..
أحبك يا سيدي.. لا أخرج حرًا...
ثروت ماهر
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
 
 
٢- الْحِكْمَة...
الجزء الأول...
الشاهد الأساسي: "وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ". (يع۱: ٥).
 
أولاً: تعريف الحكمة:
۱- أبسط تعريف للحكمة هو التعريف بأنَّ الحكمة هي القدرة على تطبيق المعرفة.. اعتدنا في تراثنا الشرقي أن نسمي الطبيب (حكيم)، لأنه يستطيع تطبيق ما يعرفه من الطب، ليعالج المريض. والمؤمن يكون حكيمًا عندما يحيا بما تعلمه من كلمة الله.
٢- أيضًا الحكمة هي القدرة على فهم كلاً من: ۱- مشيئة الله  -٢- الواقع المـُعاش  -٣- طرق الله لتحقيق مشيئته في الواقع المـُعاش. فَهمْ هذه الثلاثية مُتكَاملة معًا يُشكل أمر هام جدًا في حياة المؤمن عبر المواقف المختلفة، على المستوى الشخصي والمستوى الجماعي. بعض المؤمنين فهموا مشيئة الرب، لكن لم يفهموا طرق الرب لتحقيق هذه المشيئة، وبسبب هذا النقص في الحكمة لم يتمموا ما يريده الرب منهم.
٣- الحكمة هي فهم مُمتزِج بالقوة (عمل الروح)، وبالتالي لها القدرة أن تصنع التغييرات الصحيحة في الأوقات الصحيحة. (حكمة قوية أو قوة حكيمة للتغيير الصحيح).
 
ثانيًا: الاحتياج للحكمة الإلهية: (لماذا أحتاج للحكمة الإلهية؟):
۱- الحكمة ومخافة الرب وجهان لعملة واحدة: "يَا ابْنِي، إِنْ قَبِلْتَ كَلاَمِي وَخَبَّأْتَ وَصَايَايَ عِنْدَكَ، حَتَّى تُمِيلَ أُذْنَكَ إِلَى الْحِكْمَةِ، وَتُعَطِّفَ قَلْبَكَ عَلَى الْفَهْمِ، إِنْ دَعَوْتَ الْمَعْرِفَةَ، وَرَفَعْتَ صَوْتَكَ إِلَى الْفَهْمِ، إِنْ طَلَبْتَهَا كَالْفِضَّةِ، وَبَحَثْتَ عَنْهَا كَالْكُنُوزِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُ مَخَافَةَ الرَّبِّ، وَتَجِدُ مَعْرِفَةَ اللهِ". (أم٢: ۱- ٥).. "رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ". (مز۱۱۱: ۱۰).
الحكمة ومخافة الرب وجهان لعملة واحدة.. كل مؤمن حقيقي وابن للرب بالتأكيد يريد أن يحيا في مخافة الرب.. لكي أحيا في مخافة الرب أحتاج للحكمة للتمييز ما بين الأمور المتخالفة، وذلك لأتمسك بما هو من عند الرب، وأرفض كل ما هو ليس من الإيمان.. بدون حكمة لا يمكنني أن أميز وأعرف، الحكمة تعطني الرؤية الصحيحة للأمور، فأحفظ ثيابي من الدنس، وأحيا في مخافة الرب الحقيقية.. الحكمة تفهمني كلمة الله بشكل صحيح، فأستطيع تطبيقها على المواقف المختلفة في حياتي.. الحكمة تعلمني طرق الله، فأستطيع أن أحكم على الأمور اليومية والمواقف المختلفة التي لا أجد لها شواهد كتابية مباشرة في الكتاب المقدس.. الحكمة تجعلني فاهمًا لطرق الله ومشيئته، وتعطني القوة لأفعل المشيئة وأحيا في مخافة الرب...
 
٢- في الحكمة استنارة وفهم ممتليء بالمرونة : "مَنْ كَالْحَكِيمِ؟ وَمَنْ يَفْهَمُ تَفْسِيرَ أَمْرٍ؟ حِكْمَةُ الإِنْسَانِ تُنِيرُ وَجْهَهُ، وَصَلاَبَةُ وَجْهِهِ تَتَغَيَّرُ." (جا ٨: ۱).. في مرات كثيرة نقع في مشاكل وتنشأ الخلافات بسبب عدم فهم مواقف الآخرين، وعدم القدرة على أن نكون مرنيين مع التغيرات في الأحداث والظروف اليومية.. كثيرون ممن يبحثون عن الكمال في ما يحيط بهم، يُواجَهُون بإحباط حينما ينحرف الواقع عن تصوراتهم أو عن ما يريدون.. وهذا بالطبع ينتج عنه مشاكل متعددة.. الحكمة تصنع اتساعًا داخلي، وتجعل الإنسان قادرًا على فهم ما وراء ردود الأفعال. الحكمة تنير وجه الإنسان في المواقف المختلفة، الصعبة منها والسهلة.. الحكمة تعطي مرونة في المواقف المختلفة بدون أن تحمل هذه المرونة مساومة في الحق..
 
٣- في الحكمة شفاء إلهي: الحكمة الإلهية ليست فقط قدرة على التفكير الصحيح أو إتخاذ القرارات المنضبطة، لكنها أيضًا قوة عاملة في كيان الإنسان، روح ونفس وجسد.. "لاَ تَكُنْ حَكِيمًا فِي عَيْنَيْ نَفْسِكَ. اتَّقِ الرَّبَّ وَابْعُدْ عَنِ الشَّرِّ، فَيَكُونَ شِفَاءً لِسُرَّتِكَ، وَسَقَاءً لِعِظَامِكَ" (أم٣: ۷، ٨).. الحكمة الحقيقية التي هي من عند الرب تملأ الإنسان بهدوء حقيقي، وتعطيه أن يسلك في مسالك الرب، ويكون في هذا شفاء لنفسيته ولجسده.
"طُوبَى لِلإِنْسَانِ الَّذِي يَجِدُ الْحِكْمَةَ، وَلِلرَّجُلِ الَّذِي يَنَالُ الْفَهْمَ... فِي يَمِينِهَا طُولُ أَيَّامٍ، وَفِي يَسَارِهَا الْغِنَى وَالْمَجْدُ... هِيَ شَجَرَةُ حَيَاةٍ لِمُمْسِكِيهَا، وَالْمُتَمَسِّكُ بِهَا مَغْبُوطٌ..." (أم٣: ۱٣، ۱٦، ۱٨).. الحكمة التي من عند الرب تعطي شفاء وصحة للجسد، فتجعل الإنسان يحيا أيام طويلة على الأرض مُباركًا من الرب.. فهي شجرة حياة، وشجرة الحياة ورقها دائمًا للشفاء (رؤ٢٢: ٢).
 
 ٤- في الحكمة إنقاذ إلهي: "إِذَا دَخَلَتِ الْحِكْمَةُ قَلْبَكَ، وَلَذَّتِ الْمَعْرِفَةُ لِنَفْسِكَ، فَالْعَقْلُ يَحْفَظُكَ، وَالْفَهْمُ يَنْصُرُكَ، لإِنْقَاذِكَ مِنْ طَرِيقِ الشِّرِّيرِ، وَمِنَ الإِنْسَانِ الْمُتَكَلِّمِ بِالأَكَاذِيبِ... لإِنْقَاذِكَ مِنَ الْمَرْأَةِ الأَجْنَبِيَّةِ، مِنَ الْغَرِيبَةِ الْمُتَمَلِّقَةِ بِكَلاَمِهَا، التَّارِكَةِ أَلِيفَ صِبَاهَا، وَالنَّاسِيَةِ عَهْدَ إِلهِهَا. لأَنَّ بَيْتَهَا يَسُوخُ إِلَى الْمَوْتِ، وَسُبُلُهَا إِلَى الأَخِيلَةِ.." (أم٢: ۱۰- ۱٢، ۱٦، ۱۷)..
الحكمة تحفظ المؤمن وتنقذه.. في بعض الأوقات يرتب العدو فخاخ لكي يوقعنا فيها.. الحكمة تكشف فخاخ العدو.. المؤمن الممتليء من الروح القدس، روح الحكمة، يميز فخاخ العدو ويبتعد عنها، حتى إذا كانت مختبأة وراء شكل خارجي جيد!! في بعض الأحيان يدفع العدو ببدايات أمام المؤمن، ليست من عند الرب، قد تبدو في ظاهرها حسنة وهي في حقيقتها تكون "متملقة بكلامها" ومدمرة لحياة المؤمن إذا لم ينتبه لها!! الحكمة تنقذ وتحفظ، والفهم ينصر.. المؤمن الممتليء بالحكمة.. يكون ممتلئًا بنيران قوية وهادئة لها القدرة على حرق كل مزيف..
 
٥- في الحكمة رِبح وغِنى: "طُوبَى لِلإِنْسَانِ الَّذِي يَجِدُ الْحِكْمَةَ، وَلِلرَّجُلِ الَّذِي يَنَالُ الْفَهْمَ، لأَنَّ تِجَارَتَهَا خَيْرٌ مِنْ تِجَارَةِ الْفِضَّةِ، وَرِبْحَهَا خَيْرٌ مِنَ الذَّهَبِ الْخَالِصِ... وَفِي يَسَارِهَا الْغِنَى وَالْمَجْدُ..." (أم٣: ۱٣، ۱٤، ۱٦).. الإنسان الحكيم يُبارك في مُختلَف مجالات حياته بما في هذا من نجاح وبركة مادية وغنى.. كم من أُسَر عانت من الاحتياج بسبب عدم حكمة رب الأسرة!! وكم من أُسر افتقرت ماديًا بسبب سوء تصرف الأب أو الأم!!.. الشخص الحكيم يعرف كيف يدبر أموره. وقد يكون مقدار ما معه قليل بالمقارنة بشخص آخر، لكن بسبب الحكمة يحيا الحكيم في اكتفاء وغنى حقيقي، ويبارك آخرين!!
 
٦- في الحكمة بدايات جديدة ثابتة: "الرَّبُّ بِالْحِكْمَةِ أَسَّسَ الأَرْضَ. أَثْبَتَ السَّمَاوَاتِ بِالْفَهْمِ.." (أم٣: ۱۹).. كيف تأسست الأرض وتثبتت السموات؟! بحكمة الرب..  كل ما نراه حولنا تمَّ وأُكمِل بحكمة الرب، كما أسس الرب الأرض والسموات بالحكمة، يعطي أولاده الحكمة ليبدأوا الأمور الجديدة في حياتهم. البدايات الجديدة تحتاج حكمة إلهية. بداية الأمور في حياتنا تشير بشكل ما إلى خط سير هذه الأمور.. لذا تحتاج البدايات لحكمة حقيقية، لتحديد ورسم كيف ستسير الأمور بحسب ما في ذهن الرب.. بداية عمل جديد.. الالتحاق بكلية دون الأخرى.. الخطوبة والزواج.. توقيت الانجاب.. قرار بالهجرة.. الانتقال من مكان لآخر للسكن.. كلها قرارات كبيرة تصنع بدايات لمراحل في عمر الإنسان.. لذا يريد الرب أن يعطي حكمة إلهية لأولاده، ليبدأوا كل شيء في وقته الصحيح، وبعد حساب النفقة بشكل صحيح.. إتخاذ القرارات في البدايات بحكمة إلهية، يلازمه دائمًا قدرة على الإيمان.. إذ يقودني الرب بحكمته، يملأني بالإيمان الكافي لرؤية المعجزات في الطريق الذي قادني فيه.. هلليلويا!
 
۷- الحكمة نافعة للإنجاح، بدون استنزاف للوقت والطاقة والمجهود: "إِنْ كَلَّ الْحَدِيدُ وَلَمْ يُسَنِّنْ هُوَ حَدَّهُ، فَلْيَزِدِ الْقُوَّةَ. أَمَّا الْحِكْمَةُ فَنَافِعَةٌ لِلإِنْجَاحِ".. (جا ۱۰: ۱۰)..
ترجمة تفسيرية: "إِنْ كَلَّ[بمعنى إن تعب] الْحَدِيدُ، وَلَمْ يُسَنِّنْ هُوَ[المقصود بالضمير "هو"، الشخص العامل بالحديد] حَدَّهُ، فَلْيَزِدِ[العامل] الْقُوَّةَ[المقصود القوة البدنية في القطع]. أَمَّا الْحِكْمَةُ فَنَافِعَةٌ لِلإِنْجَاحِ.." (جا۱۰: ۱۰)... هذه آية من الآيات الصغيرة التي تحمل معاني هامة جدًا.. معنى الآية أن الحديد (الفأس أو الآلة الحديدية المُستخدمة في القطع) بعد استخدامها لفترة كبيرة تبدأ في أن تصير أقل حِدة. فمثلاً السكين بعد استخدامه لفترة من الوقت يصير غير حاد بالشكل الكافي، ويحتاج أن يُسَن. الآية تقول أن الشخص إذا لم يَسِن الحديد في الوقت المناسب، سيضطره هذا إلى بذل المزيد من القوة العضلية ليقطع بهذا السكين الغير حاد (التِلِمْ).. أو ليَنشُر بهذا المنشار الذي لم يُسَّن!!.. والجزء الثاني من الآية يوضح أن الحكمة هنا نافعة للإنجاح، لأن الحكمة ستنصح الشخص أن يُسَنِن السكين أو الفأس أو المنشار، ليعود الحديد لحدته الأولى، فيقطع بسهولة، ويوفر الإنسان طاقته المبذولة!!.. هكذا دائمًا الحكمة الإلهية، تعطي أفضل وأذكى الطرق للنجاح.. في مرات ينجح ابن للرب في شيء ما، لكن يكون نجاحه هذا مُرهق جدًا، وعلى حساب أشياء أخرى.. فقد ينجح الشخص في بعض الأشياء، لكن يكون هذا النجاح قد استنزف منه الكثير والكثير من الوقت والجهد والصحة.. الحكمة تُعرِف المؤمن كيفية النجاح  في الأمور بدون إفساد أمور أخرى!! فالطالب الحكيم يستذكر وينجح بدون أن يُهمل علاقته مع الرب!! والزوج ينجح في العمل بدون أن يفسد علاقته مع زوجته وبدون أن يفقد صحته أو يُهمِل الاجتماعات الروحية!! والزوجة تنجح في تدبير بيتها وشئون الأطفال بدون أن تثقل على زوجها وتُفسد العلاقة الزوجية!! هناك فرق بين ناجح وناجح!! ناجح مُستنزف وناجح في ملء القوة!! في بعض الأحيان يبدأ خُدام خدمتهم باشتعال حقيقي للروح، لكن مع مرور الوقت وتزاحم مسئوليات الخدمة، يخفُت هذا الاشتعال الروحي تدريجيًا، ويُكمل الخدام العمل بصعوبة شديدة. قد يحافظون على النجاح لكن وسط استنزاف شديد!! الحكمة تقول لهؤلاء الخُدام: "قفوا وليُسَّنن الحديد مرة أخرى,, أي لتمتلئوا بالروح.. وما تبذلون فيه مجهود أيام لينجح، سيتم إنجازه في ساعات.. عندما تمتلئون بالروح مرة أخرى!!".. الحكمة تصنع هذا.. تعطي نجاحات حقيقية بدون استنزاف.. أبي السماوي.. لتُعطِنا حكمتك!!
 
٨- في الحكمة عمل روحي حقيقي مُثبَّت: "يَا ابْنِي، إِنْ قَبِلْتَ كَلاَمِي وَخَبَّأْتَ وَصَايَايَ عِنْدَكَ، حَتَّى تُمِيلَ أُذْنَكَ إِلَى الْحِكْمَةِ، وَتُعَطِّفَ قَلْبَكَ عَلَى الْفَهْمِ.." (أم٢: ٢).. الحكمة والفهم يُمثلان القاعدة التي يُبنى عليها العمل الروحي الحقيقي.. لكل عمل روحي جانبان هامان جدًا:
أولاً: أرضية أو قاعدة (أفقية) يُبنى عليها وهي التي تضمن استقرار العمل الروحي واتزانه وعمقه.. وهذه الأرضية هي الحكمة الإلهية والفهم الكتابي لطرق الرب.
ثانيًا: أعمدة ودعامات (رأسية) تُتيح للعمل الروحي النمو الرأسي والارتفاع عاليًا بلا إعاقات.. وهذه الأعمدة والدعامات هي الإعلان النبوي والتمييز الروحي.
يُصلي الرسول بولس لأهل أفسس لأجل أن يمتلئوا بروح الحكمة والإعلان.. الحكمة هي القاعدة القوية للمبنى الروحي التي تضمن استقراره، والإعلان هو الأعمدة التي تضمن أن يرتفع المبنى عاليًا.. وجود هذه الثنائيات معًا، الحكمة والإعلان، الفهم والتمييز، يُجَنِبْ العمل الروحي مشاكل كثيرة، ويساعد الخدمات الروحية والكنائس على التوسع والارتفاع بدون مخاطر!!.. فكما أنه لا يمكن أن يتأسس مبنى ضخم على أرضية هشة، هكذا لا يمكن أن تنجح خدمة أو كنيسة في إرساليتها بدون فهم وتعليم كتابي صلب.. وكما أنه لا يعلو مبنى بدون أعمدة ودعامات، هكذا لا تصل خدمة أو كنيسة إلى غايتها بدون إعلان نبوي وتمييز روحي.. أبي السماوي، أنا أطلب روح الحكمة والإعلان في معرفتك، الفهم والتمييز.. املأني بروحك القدوس.. لأُتمِم ما أرسلتني لأجله!! بإسم ابنك يسوع..
ثروت ماهر
 



الْحِكْمَة... الجزء الثاني...

 الشاهد الأساسي:
"وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ". (يع۱: ٥).

في الجزء الأول من هذا المقال التعليمي عن الحكمة، تحدثنا عن تعريف الحكمة، وعن أسباب احتياجنا للحكمة الإلهية,,, ولمراجعة هذه النقاط الهامة يمكن للقاريء العزيز تَصَفُح الجزء الأول من هذا المقال.
في هذا الجزء (الثاني) سنتحدث عن صفات الحكمة الإلهية.. أو ما الذي يميز الحكمة الإلهية..
وفي الجزء الأخير (الثالث) سنتحدث عن اختبار مقدار الحكمة في حياة الشخص، أو كيف أعرف هل أنا حكيم أم لا؟..
 
صفات الحكمة الإلهية:
يخبرنا سفر الأمثال عن الحكمة قائلاً: "اَلْحِكْمَةُ بَنَتْ بَيْتَهَا. نَحَتَتْ أَعْمِدَتَهَا السَّبْعَةَ..." (أم۹: ۱).. وبحسب هذه الكلمات، فإن للحكمة سبعة أعمدة، أو يمكننا أن ندعوها سبعة صفات أساسية، وهذه الصفات تُشكِل الأعمدة التي يُبنَى عليها بيت الحكمة..
كلمات سفر الأمثال هذه كتبها سليمان الحكيم في النصف الثاني من القرن العاشر قبل الميلاد تقريبًا. ويأتي بعده الرسول يعقوب - أحد رسل العهد الجديد - بما يَقرُب من ألف عام تقريبًا، ليعرفنا بصفات الحكمة السبعة في رسالته التي كتبها حوالي سنة ٥۰ ميلاديًا.. يقول الرسول يعقوب مُوضحًا لنا صفات الحكمة الإلهية السبعة: "وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَ[عديمة]الرِّيَاءِ.." (يع۳: ۱۷)..
وسوف نتناول بالدراسة كل صفة من هذه الصفات السبعة في السطور الآتية، وتأثيرها وسط جماعة الرب.
 
۱- الحكمة الإلهية هي حكمة طاهرة:

(طاهرة) في الأصل كلمة يونانية تُنطَق (آجني)، وتعطي معنى (عفيفة، بريئة، نقية).. والكلمة تأتي من نفس الأصل الذي جاءت منه كلمة (تكريس، تخصيص).. الحكمة الإلهية التي من عند الرب تجعل صاحبها مُكرَسًا مُخصَصًا للرب، يسلك ببساطة حقيقية وبراءة ونقاء تجاه الآخرين.. الحكمة الإلهية تجعل الشخص صاحب ذهن مُوَحَّد (single – minded)، بسيط وبريء في نظرته للأمور، مثل الله، ليس منقسم الذهن (double – minded).. لا يضع دائمًا افتراضات سيئة وراء تصرفات إخوته في الكنيسة أو جماعة الخدمة..

كان آدم قبل السقوط صاحب ذهن ذي اتجاه واحد.. كان ذهنه نقيًا، لا يفهم الأمور بشكل مُلوَث بالخطية.. الفهم المزدوج للأمور وربط تصرفات الإخوة دائمًا باحتمالية أمور شريرة بالتأكيد ليس حكمة إلهية، لكنه نتاج السقوط في الخطية.. نتاج الأكل من شجرة معرفة الخير والشر! التي لابد أن يتنقى منها المؤمن الحقيقي المغسول بدم الرب!!

الحكمة الحقيقية النقية عندما تملأ الإنسان، تجعله لا يفكر في الأمور بشكل مُلوَث بالخطية أو بالخوف.. وعلى عكس الحكمة الشيطانية، التي تجعل الشخص مُتشكِكًا في مَن حوله رابطًا الأمور دائمًا بالخطية والنجاسة، فإن الحكمة الإلهية دائمًا ترى النقاء ولا تعرف الأمور ذات المعنيين!! فليس الخادم الحكيم في وسط الكنيسة هو مَن يحيا مُتشكِكًا في مَن حوله ممَن يخدمهم!! إنما الخادم الحكيم هو مَن يرى الذين يخدمهم بعين الرب البسيطة، وفي نفس الوقت يكون واثقًا أنَّ الرب سيكشف له المشاكل الحقيقية في حياة النفوس في أوقاتها..

٢- الحكمة الإلهية هي حكمة مُسالِمَة:

(مُسَالِمَة) في الأصل كلمة يونانية تُنطَق (إيرينيكي) وتعطي معنى (السلام والهدوء).. وهي من نفس أصل الأفعال التي تأتي بمعنى (يحفظ السلام – يُسوي خلاف – ينسجم – يسترضي – يبحث عن الأمور المشتركة)..

الحكمة الإلهية الحقيقية دائمًا تبحث عن السلام. الأخ الحكيم حقًا هو مَن يصنع سلامًا وهدوءًا في الجسد في وسط كنيسة الرب.. قابلت إخوة في بعض الكنائس والجماعات الروحية، وتحت مُسمَّى الحق والعدل، وفي مرات تحت مُسمَى النبوة، يثيرون مشاكل مُتعددة!! ويوقعون ما بين الإخوة!! بالتأكيد هذه ليست الحكمة الإلهية.. هذا هو زرع إبليس الذي يأتي بالأمراض الروحية والجسدية وسط كنيسة المسيح!!

الأخ الحكيم حقًا هو مَن يستر خطايا غيره.. وهو مَن يجول صانعًا سلامًا حقيقيًا بين المتنازعيين في الكنيسة!! الأخ الحكيم حقًا هو مَن يبحث عن الأمور المشتركة بين الإخوة، ليتحدث عنها ويقربهم من بعضهم البعض!! الأخ الحكيم هو مَن يبحث عن الأمور التي تجعله ينسجم مع إخوته في الجسد. لا ينظر دائمًا لاختلافه عنهم أو اختلافهم عنه.. وبهذا يجد دائمًا موضوعات مُشتركة وأمور يمكن أن تجعله يتقرب من إخوته في محبة حقيقية.. بعض المؤمنين الأحباء تركوا أماكن خدمتهم وكنائسهم فقط لأنهم لم يتوافقوا مع باقي الإخوة، والبعض الآخر، لنفس السبب، يعيش مُنعزلاً وسط كنيسته التي وضعه فيها الرب!! بالتأكيد هؤلاء الأحباء في احتياج للحكمة التي تمكنهم من اكتشاف الأمور المشتركة بينهم وبين الآخرين، والعمل على تنميتها، ليحدث انسجامًا حقيقيًا بالروح وسط جسد المسيح.

۳- الحكمة الإلهية هي حكمة مُتَرفِقَة:

(مُتَرفِقَة) الأصل كلمة يونانية تُنطَق (إِبيِّكيس) وتعطي معنى (لطيفة ووديعة).. يقول الرسول يعقوب في بداية كلماته عن الحكمة: "مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ، فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ." (يع۳: ۱۳).. الحكمة الحقيقية تعطي صاحبها أن يتصرف في المواقف المختلفة بوداعة.. قد تأتي أوقات يشعر الإنسان بالاستفزاز من أخطاء الآخرين! قد يُخطأ الآخرين أخطاء حقيقية تجعلك داخليًا مُنفعلاً وتريد أن تفرغ انفعالك بغضب فيهم.. الحكمة الحقيقية تعطي ضبط نفس ووداعة حقيقية في هذه المواقف!!..

من سنوات، لاحظت كمُرشد روحي لحياة أحد الأشخاص الأحباء الذين يخدمون الرب، أن هذا الشخص كان دائم الإهمال في خدمته، وفي مرات رغم التوجيهات المتتالية، كان لا يُبالي بما عليه من دور في الخدمة.. في مرات كنت أشعر إني أريد أن أصيح في وجهه مُعنفًا إياه بشدة!! لكن كان الروح القدس باستمرار يقودني لأن أتعامل معه بترفق.. روح الحكمة كان يرى الاحتياج الحقيقي لهذا الشخص، وهو القبول.. وصرت افتح قلبي لروح الله ليملأني بحكمته المُترفقة في تعاملاتي مع هذا الشخص.. مع مرور الوقت هذا الشخص تغير تمامًا!! وصار خادمًا حقيقيًا يخدم الرب بكل قلبه وبتمييز حقيقي!! هلليلويا.. الحكمة الحقيقية مُترفقة وتعطي نتائج أكيدة وثابتة.. مجدًا للرب!
 
٤- الحكمة الإلهية هي حكمة مُذعِنَة:


(مُذعِنَة) الأصل كلمة يونانية تُنطَق (إبيثِيس) وتعطي معنى (يُراعِي ويطيع بسهولة ومُسَايِر).. الزوجة الحكيمة تُطيع زوجها بسهولة في الرب.. الابن الحكيم يطيع والديه بسهولة في الرب.. الشخص الحكيم يطيع مرشده الروحي بسهولة في الرب.. الحكمة الحقيقية هي حكمة غير معاندة. إنها حكمة طَيِّعة مرنة.. الشخص الحكيم هو شخص سهل التشكيل ومَرِن في أعماقه.. عندما يخضع الحكيم، لا يخضع مُتضَرِرًا ومُتَوَجِمًا ومُتَجَهِمًا!! إنما يخضع فرحًا مُسَبِحًا مصليًا شاكرًا!!

الشخص الحكيم هو شخص سهل في التعامل مع المتغيرات.. يراعي تَغيُر ظروف الآخرين ويراعي العوامل المحيطة التي قد تؤثر في مَن حوله، فتجعلهم غير قادرين على الالتزام بما عليهم كما ينبغي!! الحكيم مُسَايِر.. غير مُتَمَسِك بصورة محددة ينبغي أن تُفعَل بها الأمور.. الحكيم يرى الأمور بنظرة مُتسعة، تُمكِنه من احتواء الاختلافات.. الأمور المختلفة..  والأشخاص المختلفين.. الحكيم مرن، ومطيع في الأوقات التي ينبغي أن يطيع فيها.. وطاعته هي طاعة سهلة لا تضغط عليه ولا تضغط على الآخرين!

٥- الحكمة الإلهية هي حكمة مملوءة رحمة وأثمارًا صالحة:

(مملوءة رحمة وأثمارًا صالحة)... أحد صفات الحكمة الحقيقية أنها تجعل صاحبها رحيمًا.. الشخص الحكيم يجد نفسه ممتلئًا بالرحمة.. فالحكمة الإلهية والرحمة صفتان متلازمتان!! عندما يملأني روح الحكمة، فإنه يُظهِر فيّ يسوع.. ويسوع هو ربٌ رحيم.. رحيم جدًا!! كم مرة نقرأ في الأناجيل عبارة "تحنن يسوع"؟! يسوع دائم التحنن.. في أيام جسده على الأرض كان دائم التحنن والرحمة.. تعامل يسوع مع فئات مُهانة ومُهملة من المجتمع بمنتهى الرحمة.. تعامل مع أشخاص مرفوضين لا يتعامل معهم أحد بمنتهى الرحمة.. آه هلليلويا!! كم أحب رحمة يسوع!!

يقول الكتاب: "اَلرَّجُلُ الرَّحِيمُ يُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْقَاسِي يُكَدِّرُ لَحْمَهُ" (أم۱۱: ۷).. كم من مرات قد يصنع الإنسان رحمة مع غيره، فإذا به يجد مكافآت الرب له أعظم بكثير مما صنعه من رحمة!

أعرف أخًا ملأه الروح القدس ذات مرة، ففاضت في قلبه رحمة الله بشكل مميز جدًا، وقد قَبِّل أن يستضيف في سيارته أناس فقراء جدًا ويوصلهم من مكان لمكان.. وإذا به يكتشف من خلال عدة دلائل أكيدة، أنه قد استضاف ملائكة الرب.. ملائكة حقيقيين في سيارته!! وقد امتلأت سيارته بحضور مميز جدًا للرب شَهِدَ عنه كثيرين لشهور عديدة!! واختبر بالحق كلمات الكتاب: "لا تَنْسَوْا إِضَافَةَ الْغُرَبَاءِ، لأَنْ بِهَا أَضَافَ أُنَاسٌ مَلاَئِكَةً وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ" (عب۱۳: ٢)..
عزيزي القاريء، إذا كنت شخصًا قد ميزك الرب بإمكانيات متميزة ومؤهلات عالية، اسمح لي أن أهمس في أذنك بكلمات أشعرها من الرب: (كن قريبًا من البسطاء.. لتصلي أن الرب يسكب في قلبك حكمته الممتلئة بالرحمة التي تجعلك تثمر أثمارًا صالحة في حياة البسطاء من الأخوة)!!..
يحكي لنا سفر أعمال الرسل عن طابيثا، هذه التلميذة التي كانت ممتلئة أعمالاً صالحة واحسانات (أع ۹: ۳٦- ٤۳)، وعندما ماتت أقامها بطرس بقوة الرب يسوع.. لديّ اقتناع شخصي أن طابيثا بالتأكيد كانت تلميذة حكيمة لأنها عاشت حياة ممتلئة بالعطاء لكنيسة الرب.. لكن أيضًا لديّ اقتناع شخصي أن حياة طابيثا التي امتلأت بالرحمة والعطاء كانت مفتاحًا لتدفق المسحة في بيت طابيثا.. مما سهل جدًا معجزة قيامتها من الأموات!!.. ليعطنا الرب ان نمتليء بالحكمة المملوءة بالرحمة والأثمار الصالحة!
 
٦- الحكمة الإلهية هي حكمة عَدِيمَةُ الرَّيْبِ:
 
العبارة (عَدِيمَةُ الرَّيْبِ) في الأصل اليوناني هي كلمة واحدة تُنطَق (إدْيَاكْرِيتُوس).. وتعطي معنى (غير مُتحيزة – ثابتة وغير مترددة وعديمة الشك – غير مترنحة أو متمايلة).
الحكمة الإلهية تجعل صاحبها غير مُتَحيز!! الحكمة الحقيقية تجعل صاحبها حياديًا عندما يُحكِمه الآخرون في خلافاتهم، فلا ينحاز لطرف على حساب الآخر بسبب علاقات خاصة أو صداقة! عندما تحدث مشكلة ما بين اثنين من أعضاء الكنيسة أو الجسد الواحد، فإن القائد الحكيم يسمع لكل منهما على حدة، ولا ينحاز لشخص على حساب الآخر. لكن الحكمة تملأه بالحيادية وهذا يساعده على رؤية الحقيقة، وعلى الحكم الصحيح على الأمور!
الحكيم حكمته تطرد التردد والتذبذب من حياته.. كثيرًا ما تتعطل قرارات في حياتنا بسبب التردد والخوف، وقد نحسب أن هذه حكمة!! ولكن الحكمة الحقيقية تعلمنا الانتظار أمام الرب والهدوء في محضره لسماع صوته في أمورنا المختلفة، وعندما نسمع صوت الرب، فإن الحكمة الحقيقية تطرد كل تردد من داخلنا وتقودنا في طرق الرب بعملية.. ليس هناك خطأ في أن تطول فترة اتخاذ القرار، لأننا في أحيان نحتاج وقت لنتأكد من أننا نسمع الرب ونفهمه بطريقة صحيحة. ولكن إذا طال وقت اتخاذ القرار بسبب التردد، ومع إني قد أخذت من الرب إشارة التحرك، فهذه ليست حكمة، وقد يتعرض الشخص لفقدان مشيئة الرب في أمر ما بسبب التأخير الغير حكيم!!
أيضًا فإن الحكيم لا يترنح في اتخاذ القرارات.. فالحكيم ليس صاحب رأي في ساعة وصاحب رأي آخر في ساعة أخرى! الحكيم ثابت.. يقول الكتاب: "رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ.." (يع۱: ٨).. في مرات عند اتخاذ قرارات معينة، يعلن الرب بوضوح مشيئته للإنسان بدون عناء.. لكن يُدخِل الإنسان نفسه في عناء وتردد بمحاولاته للبحث والتعرف على كل البدائل المُتاحة برغم إعلان الرب عن مشيئته!! في مرات يقول الشخص "حسنًا لقد عرفت مشيئة الرب في هذا الأمر، لكن لا بأس في أن أبحث وأتعرف على كل الاختيارات المُتاحة، قبل أن أتحرك في مشيئة الرب".. ولكن للأسف، قد يؤدي هذا في مرات إلى التشتيت والخلط وضياع الرؤية الإلهية!! فمثلاً، قد يعلن الرب لأخ ما عن مشيئته في أن يسافر هذا الأخ إلى بلد معين، وبالفعل يفتح الرب الباب للسفر.. ويكون هذا الأخ متأكدًا من مشيئة الرب، وعليه أن يتحرك فيها، فإذا به يقرر أن يطرق أبوابًا في بلاد أخرى ليقارن ما بين مستوى المعيشة في هذه البلاد الأخرى ومستوى المعيشة في البلد التي يقوده الرب إليها!! ولا يدري صاحبنا أنه بهذا يفتح الباب للعدو ليشككه في مشيئة الرب ويُشوش عليه.. صديقي، إذا تأكدت من مشيئة الرب، امض فيها بكل قوة وسلام وأمان.. فحيث يقودك الرب، سيكون معك!
 
۷- الحكمة الإلهية هي حكمة عَدِيمَةُ الرِّيَاءِ:
 
العبارة (عَدِيمَةُ الرِّيَاءِ) في الأصل اليوناني هي كلمة واحدة تُنطَق (أنوبُوكْريتُوس).. وتعطي معنى (صادق ومخلص وحقيقي وأصيل – وبلا رياء وغير زائف وبلا نفاق)..
الشخص الحكيم لا يُنافق!! والحكيم لا يُظهِر عكس ما يُبطِن!! يحاول العالم جاهدًا أن يقنعنا بأن الحكيم هو مَن يتلوّن لأجل مصلحته، ولكن هذه هي الحكمة الأرضية النفسانية الشيطانية!! الحكمة الإلهية صادقة وبلا رياء – لا تُخرِج أمورًا مزيفة، ولا تحجز الحق في الوقت الصحيح لإذاعته، رغبةً في إنقاذ نفسها!!
الشخص الحكيم ليس هو الشخص الذي يمتدح الناس بما ليس فيهم! الحكيم هو مَن تُمكِنه حكمته من اكتشاف المميزات الحقيقية في النفوس، فيمتدحهم بالصدق! العين الحكيمة هي العين التي ترى اللآليء وسط المحار! واللسان الحكيم هو اللسان الذي يمتدح بالحق ويشجع بالروح، فيُشعل النفوس بفرح الرب!
الحكيم لا يخدم بتدين.. والحكيم مع أنه يلتزم بخدمته حتى في الأوقات التي لا يشعر فيها بتوهج روحي، إلا أنّه بسبب الحكمة لا يترك نفسه للبرودة! لكن مع التزامه بخدمته يصلي باجتهاد ليسترد اشتعاله بحب الرب وتوهجه الروحي! الحكيم ينقض على البرودة الروحية مُحاربًا إياها بلا هوادة – لتأتي النار وتلتهم البرودة، فلا تخرج الخدمة مزيفة أو باردة..


عزيزي القاريء، في نهاية هذا الجزء من مقال الحكمة، تستطيع بالطبع أن تختبر في ظل ما قرأته نوعية الحكمة الموجودة في حياتك.. هل هي الحكمة الإلهية النازلة من فوق.. أمْ هي...؟!! وأصلي أن نجد أنفسنا جميعًا ممتلئين بحكمة الروح القدس.. في الجزء القادم، وهو الجزء الأخير من هذا المقال، سندرس معًا اختبار مقدار الحكمة في حياتنا، وسنعرف معًا مفاتيح تساعدنا للإجابة على السؤال "إلى أي مقدار أنا أحيا حياة الحكمة الإلهية".. الرب معك!..
ثروت ماهر
مايو - ٢۰۱۳

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق