مقالات لاهوتية/ محاضرات في علم الآباء


تقرأ في هذه الصفحة: 
1- غاية التجسد في الفكر اللاهوتي للأب متى المسكين (١٩١٩‏–‏ ٢٠٠٦).
2- مقالات لاهوتية: الملك الألفي.
3- مقالات لاهوتية: عظيم هو سر التقوى.
4- محاضرات في علم الآباء: المحاضرة الأولي: مقدمة في علم الآباء.
--------------------------------------


غاية التجسد في الفكر اللاهوتي
للأب متى المسكين (١٩١٩‏–‏ ٢٠٠٦)

   بقلم دكتور/ ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت (PhD) - جامعة ريجينت، فرجينيا

مقدمة:
"لأن الكلمة صار إنسانًا، لكي نصير نحن إلهيين"
تعتبر هذه العبارة مدخلاً مناسبًا لموضوع الدراسة في هذا البحث. فهذه العبارة كتبها القديس أثناسيوس الرسولي[1]. وهي تُمثل أفضل تعبيرًا عن الفكر اللاهوتي للأب متى المسكين حول غاية تجسد الكلمة.

يتناول الباحث في هذا البحث دراسة مختصرة لفكر متى المسكين حول غاية التجسد. وغاية تجسد الكلمة عند المسكين هي أن يصير الإنسان إلهيا (أو تأله الإنسان بحسب التعبير الآبائي - ثيؤسيس). وتشتمل هذه الدراسة المختصرة على ثلاثة فصول قصيرة. الفصل الأول عبارة عن دراسة عامة لأهم المصطلحات المرتبطة بموضوع البحث.

والفصل الثاني هو قراءة في الأفكار المختلفة حول مفهوم الخلاص، باعتباره مدخلاً للتبنى والتأله عند متى المسكين. وأيضًا يشتمل الفصل الثاني على قراءة في الأفكار المختلفة حول مفهوم الامتلاء بالروح القدس، باعتباره مرادفًا للتأله في كتابات المسكين.

أما الفصل الثالث فهو عرض لفكر متى المسكين حول غاية التجسد مارًا بمفاهيم الخلاص والامتلاء بالروح، وذلك من خلال قراءة في بعض كتابات الأب متى المسكين وبعض كتابات تلاميذه من الرهبان.

هذا وسوف يقوم الباحث بعرض نماذج من كتابات تتناول أقوال معاصرة وأخرى آبائية، وذلك بهدف إثبات أنّ الفكر اللاهوتي للأب متى المسكين حول التجسد لهو فكر أصيل نابع من فكر آبائي مستقيم، وليس غريبًا عن فكر الكنيسة، ولكنه يتطابق مع الفكر الذي يظهر في أقوال الآباء وكتاباتهم عبر الأجيال.

الفصل الأول: التعريف ببعض المصطلحات الهامة للبحث:

كما سبق وأشار الباحث، فإن هذا البحث يتناول بالدراسة غاية التجسد في الفكر اللاهوتي للأب متى المسكين. وقبل الخوض في جوانب البحث، يَجدُر بنا أن نتناول بالدراسة معاني بعض المصطلحات الرئيسية، مثل مصطلح "اللاهوت"، ومصطلح "التجسد".

يُعَرف المعجم اللغوي المطول "البستان"، كلمة "اللاهوت" على أنها الألوهة. ويقول أن أصل الكلمة "لاه" بمعنى "إله"، زيدت فيه الواو والتاء للمبالغة. كما زيدتا في كلمات أخرى مثل "ملكوت" و"جبروت". كما يُعَرف كلمة "اللاهوتي" على أنه الشخص العالم بالعقائد اللاهوتية[2].

هذا ويُعَرف "المعجم الوجيز" كلمة اللاهوت فيقول أنّه يراد به الخالق. ويضيف أنّ علم اللاهوت هو العلم الذي يبحث في الخالق وصفاته وعلاقاته بمخلوقاته، ويقابل علم التوحيد في الاسلام. ويقول عن الشخص اللاهوتي أنه الشخص المشتغل بعلم اللاهوت[3].

وتعريف علم اللاهوت كعلم عند الإنجبليين المشيخيين، يتلخص فيما قاله جيمس أنس في كتابه "علم اللاهوت النظامي"، وهو المرجع الرئيسي لدارسي اللاهوت المشيخيين. يقول أنس عن ماهية علم اللاهوت: "هو علم يبحث عن الله وصفاته وشرائعه وأعمال عنايته، والتعاليم التي يجب أن نعتقدها، والأعمال التي يجب أن نقوم بها"[4].

أما التعريف الآبائي للاهوت وللاهوتي الحقيقي، فهو يضيء أمامنا بمفهوم آخر. وهو في رأي الباحث، تاج التعريفات وأدقها وأعمقها. فعلم اللاهوت عند آباء الكنيسة هو العلم الذي يدرس الإلهيات، أو هو العلم الذي يَدرس ليعرف ما لله. معرفة الله لا تكون إلا بإعلان. الله فقط هو القادر إن يُعلن عن ذاته. الله عندما يُعلن عن ذاته، يُعطي ذاته. وفي هذا يقول إيفاجريوس (٣٤٦ – ٣٩٩)[5] : "اللاهوتي الحقيقي هو مَن يصلي. إذا كنت لاهوتيًا حقيقيًا، إذًا فأنت تصلي، وإذا كنت بالحق تصلي، إذا فأنت لاهوتي حقيقي".  كما يقول العالم اللاهوتي نياندر[6] : "إن القلب هو الذي يصنع اللاهوتي"[7]. ويرى الباحث أن هذا التعريف الآبائي للاهوتي الحقيقي هو أنسب تعريف يمكن أن يُستخدم، خاصة عندما نتحدث عن الأب متى المسكين، الذي تَشكَل لاهوته بين جدران قلايته، فخرج لاهوتًا مصاغًا وممتزجًا بروح الصلاة الحقيقية.

وإذا انتقلنا إلى المصطلح الثاني ألا وهو "التجسد". نجد أنّ المعجم الوجيز يذكر، تحت باب الجيم وفصل السين والحرف الأخير الدال، الفعل "تجسّد" أي صار ذا جسد[8]. ويتفق "مختار الصحاح" مع هذا التعريف، إذ يذكر في تعريف "الجسد" أنه "البدن"، ويقول منه "تجسّد"، كما نقول من الجسم تجسّم. هذا ويسير "البستان" على نفس النهج. فيُعرِف "تجسّد"، أنّه صار ذا جسد كقولهم تجسّم أي صار ذا جسم[9].

وعند اللاهوتيين، التجسد هو عقيدة أساسية في تعليم الخلاص. فنجد جيمس أنس يقول في الجزء الخاص بتجسد المسيح من كتابه علم اللاهوت النظامي: "إن التعليم البسيط البليغ الخلاصي... هو أنّ ابن الله الأزلي صار إنسانًا باتخاذه لنفسه جسدًا..."[10].

وعلى هذا فإننا عندما نتكلم عن غاية التجسد في الفكر اللاهوتي للأب متى المسكين، فإننا نتكلم عن الهدف النهائي من أن يصبح الله ذا جسدٍ بحسب فكر الأب متى المسكين عن الله.

ولكن وقبل الخوض في فكر الأب متى المسكين، يجدُر بنا أن نلقي نظرةً عامة على بعض المفاهيم اللاهوتية التي سنتناولها في حديثنا عن فكر المسكين. والفصل القادم يلخص هذه النظرة العامة.

الفصل الثاني: قراءة في المفاهيم العامة عن الخلاص، والملء بالروح القدس:

١- قراءة في المفاهيم المختلفة عن الخلاص:
بنظرة عامة على الآراء المختلفة الموجودة في الكنيسة بطوائفها، نجد أن الآراء اللاهوتية عامةً تنقسم إلى وجهتين نظر رئيسيتين في التعبير عن أمر خلاص الإنسان. غير أننا قبل عرض الاختلاف، لابد أن نوضح أن جميع الطوائف المسيحية تتفق فيما بينها على أن: المسيح أكمل وأنجز فداء الإنسان وخلاصه بالكامل وذلك بتجسد الرب وحياته وموته وقيامته وصعوده إلى السماوات وجلوسه عن يمين الآب وإرساله للرح القدس.

ولكن يبدأ الاختلاف في الأفكار اللاهوتية في الظهور عند هذه النقطة التي يحاول فيها كل طرف أن يصيغ فهمه ليقينية الخلاص في حياة الإنسان. وهنا يظهر إتجاهين أساسيين:
  1. الاتجاه الأول هو الذي ينبر على أن يقينية خلاص الإنسان تصبح واقعًا غير قابل للشك بمجرد إيمان الإنسان بعمل المسيح الكفاري. ويؤكد هذا الاتجاه على أن الإيمان وحده كافٍ. وأن الإنسان بعد الإيمان يمكن النظر إليه على أنه (خاطيء ومُبرر بآن واحد). فقد يخطيء، لكن بسبب إيمانه بعمل المسيح الكفاري، فإن البر الذي للمسيح صار لهذا الإنسان الخاطيء، وعليه فإن هذا الإنسان يصبح متيقنًا من خلاصه الأبدي بمجرد إيمانه القلبي بالرب يسوع وعمله الكفاري. وعليه فالإنسان يمكن أن يحتفل بخلاصه في التو واللحظة، لحظة إشراقة الإيمان في قلبه، بدون انتظار لأي مفرادات أخرى (كالأعمال مثلاً). فلسان حال الشخص الذي نال عطية الإيمان هو "أنا آمنت وخلُصت". وأعمال الإيمان تأتي بعد ذلك كثمر لهذا الإيمان. فالأعمال ثمر ولكنها ليست مفردًا من مفردات يقينية الخلاص. مفردات يقينية الخلاص في هذا الاتجاه تتشكل من كلمة واحدة هي "الإيمان". ويُمثل هذا الاتجاه مختلف الكنائس الإنجيلية بمذاهبها. ويتضح هذا الفكر في كلاسيكيات الكتب المُعبرة عن اللاهوت الإنجيلي مثل "علم اللاهوت النظامي" لجيمس أنس، "المسيحية المجردة" لجون كالفن، وغيرها العديد من الكتب.
  2. أما الاتجاه الثاني فيُنبر على أن مفردات يقينية الإيمان هي الإيمان والأعمال معًا. ولا يُقر هذا الاتجاه الاعتقاد بأن الشخص يمكنه أن يعلن يقينه من خلاصه الشخصي مقترنًا بإعلانه لإيمانه. وتبدو الأعمال، في هذا الاتجاه، وكأنها شرط للخلاص. ويمثل هذا الاتجاه بعضًا من الكنائس التقليدية. ومُعبر عنه في بعض الكتب وأشهرها "الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي"، و"بدعة الخلاص في لحظة".[11]

٢- قراءة في المفاهيم المختلفة عن الملء بالروح القدس:
عن الروح القدس، جميع المذاهب المسيحية تتفق فيما بينها على ما جاء في قانون الإيمان النيقاوي عن ماهية الروح القدس. فهو الأقنوم الثالث في اللاهوت. وهو مساوٍ للآب والابن في الجوهر.
على أنه يوجد جانبان للاختلاف في عقيدة الروح القدس في ما بين المذاهب المسيحية؛ وهما:
أ- إنبثاق الروح القدس:
الرأي الأول في مسألة إنبثاق الروح، هو إنبثاق الروح القدس من الآب (من عند الآب ينبثق- يو١٥: ٢٦). وتتفق في هذا الرأي الكنائس التقليدية مع بعض مذاهب الكنائس المُصلَحة. فنجد أثناسيوس الرسولي يقرر بوضوح أن الروح القدس منبثق من الآب[12]. كما يكتب القديس باسيليوس أن "الروح القدس ينبثق من الآب في الابن"[13]. وتتفق الكنائس التقليدية في هذا الإيمان كما يتفق معها بعضًا من الكنائس المصلحة، مثل الكنيسة الخمسينية، إذ يقول صموئيل مشرقي: "أما الادعاء بأن الروح القدس منبثق من الإبن كما هو منبثق من الآب... فهو زعم باطل"[14].
هذا بينما نجد الرأي الآخر والذي يرى إنبثاق الروح من الآب والإبن مؤيدًا من بعض مذاهب الكنائس المصلحة مثل الكنيسة المشيخية ويظهر في كتاب اللاهوت النظامي لجيمس أنس.

هذا ويظهر للدارس أن الرأي الأول (إنبثاق الروح القدس من الآب في الإبن) هو الصواب، حيث أن:
1.      التغيير الذي أجرته الكنيسة الغربية في قانون الإيمان النيقاوي، لم يكن مرتكزًا على اقتناع لاهوتي. وإنما كان محاولة لإسكات الأريوسيين الذين يستغلون عبارة "المنبثق من الآب" لإثبات عدم المساواة بين الآب والابن. وعلى هذا قررت الكنائس الغربية في مجمع (توليدو- ٥٨٩م) إدراج كلمة الابن أيضًا. ويرى الباحث أن الأمور العقيدية لا ينبغي أن تصاغ كرد فعل.
2.      الشواهد التي تستند عليها الكنائس الغربية في إثبات إنبثاق الروح من الآب والابن، هي كلها شواهد تتكلم عن الإرسال وليس الانبثاق، وثمة اختلاف كبير جدًا ما بين الإرسال (الذي يحدث في الزمن) والانبثاق (الأزلي الأبدي)، مما لا يتسع المجال في هذا البحث للكلام عنه.

ب- الملء بالروح القدس:
يتفق الجميع على أن الملء بالروح القدس هو وصية كتابية (امتلئوا بالروح- أف5: 18)، كما يتفق الجميع أن الملء بالروح القدس يملأ حياة المؤمن بالثمار الروحية مثل المحبة والفرح والسلام، ويُطلق المؤمن في حياة الخدمة ليأت بثمر كثير. ولكن الاختلاف قائم حول توقيت المرة الأولى التي يختبر فيها المؤمن ملء الروح القدس، والتي تسمى "معمودية الروح القدس". ويمكن تلخيص الآراء في هذا الموضوع في وجهتي نظر رئيسيتين: الأولى هي أن معمودية الروح تحدث في وقت الولادة الجديدة (عندما يولد الشخص بالروح)[16]. والثانية هي أن معمودية الروح هي إختبار ثانٍ محدد، يحدث بعد اختبار الولادة بالروح القدس، ولابد للمؤمن أن يطلبه ويسعى إليه.[17] هذا وجدير بالذكر أن وجهة النظر الأولى والتي تقول أن معمودية الروح تحدث لحظة الولادة الجديدة، يتفق حولها الكنائس التقليدية مع الكنائس المشيخية. مع أن كلاً منهما، لحظة الولادة الجديدة عنده مختلفة عن الآخر. فالتقليديون يرون أن الولادة الجديدة في معمودية الماء. أما المشيخيون فيرون الولادة الجديدة في لحظة قبول الرب مخلصًا شخصيًا.

الفصل الثالث: غاية التجسد عند متى المسكين:

أ- مفهوم الخلاص:
الدارس لفكر متى المسكين يلاحظ تدرجًا في مفهوم الخلاص يظهر من خلال متابعة التطور التاريخي لكتاباته. ففي تفسير المسكين للرسالة إلى رومية، والذي نُشر عام ١٩٩٢، وتحديدًأ في تفسيره للعدد الرابع والخامس من الإصحاح الرابع، يقول المسكين:

وهذا الأمر لا يدخل في السجال المعروف بين العقائد: هل الخلاص بالإيمان
أم بالأعمال؟ فهذا لا وجود له عند ق. بولس ولا عند غير قديس بولس ولا في
الإنجيل جملة. فالخلاص بالإيمان والأعمال معًا. فلا خلاص بدون إيمان، ولا
إيمان بدون أعمال. والدينونة العتيدة لابد أن ندخل فيها بأعمالنا، ولكن بدون 
إيمان لا يتزكى عمل ما ولا إنسان ما.[18]

بينما في شرحه للرسالة إلى غلاطية نجد مفهوم الخلاص أوضح، إذ يقول: "المسيح لا يطلب من الإنسان إلا إيمانه... وحينئذ يكون في مجال قوة المسيح الذي يتمم له كل شيء. ولا يعود له عمل إلا استيعاب عمل المسيح والفرح به"[19].

والمعمودية في فكر متى المسكين هي الميلاد الثاني. فنجده في تفسيره للإصحاح السادس من الرسالة إلى رومية يتكلم عن المعمودية، ويقول: "ولكن المعمودية... هي الميلاد الثاني، الخلقة الجديدة، الميلاد من فوق، الميلاد من الماء والروح، الميلاد لله، الميلاد بالكلمة، الختم الحي، الاستنارة[20]. وفي شرحه لجزء آخر من نفس الرسالة، يقول: "إذًا فبمعمودية الموت مع المسيح يكون الإنسان قد تقبل لحكم الموت عن خطاياه مع المسيح وقام مع المسيح"[21].

ولكن للمعمودية مفهوم واضح عند المسكين، فالمعمودية هي حالة استنارة، والاستنارة هي صفة مُلازمة للمعمودية[22]. إذًا فيكون فعل المعمودية متوقف بدون الاستنارة. حيث يستشهد المسكين بقول غريغوريوس النيسي (إذا بلغنا معرفة هذا السر (المعمودية) بلغنا الاستنارة)، ليدلل المسكين بذلك على أننا مطالبون بتحقيق معموديتنا عن طريق تدريب حواسنا الروحية ذهنيًا أيضًا لنفهم أسرار الله[23].

والباحث يستنتج أنّه بما أننا مُطالبون بتحقيق معموديتنا، إذًا فعل المعمودية غير مُتحقق لحين تحقُق الشرط. وبذلك يكون الخلاص متوقف على الاستنارة. وهذا يقترب بنا جدًا إلى المفهوم المُصلَح عن الخلاص والمعمودية. ألا وهو أن المعمودية هي إشارة إلى حقيقة، ولكنها ليست الحقيقة عينها. فهي علامة خارجية على نوال النعمة داخليًا. ولابد لإتمام معناها الخارجي إتمام المعنى الداخلي بالنعمة إى وهو الميلاد الثاني بالإيمان بالمخلص.

وبهذا المعنى المُحدد جدًا للمعمودية، يمكن تلخيص فكر متى المسكين في الخلاص، بأنه في المعمودية (التي لا يتحقق فعلها إلا بالاستنارة) يتم الميلاد الثاني، وهي سر الإيمان الأول والمدخل الأول للنعمة. وبالمعمودية ننال التبني فنصير "مولودين من الله"[24]. وبالميلاد الثاني ندخل بالنعمة إلى مجال الإيمان الذي بسببه توجد الأعمال. هذا ويمكن السقوط من النعمة[25]. ولا يمكن أيضًا تجاهل يقين المسكين من الخلاص في الماضي والحاضر والمستقبل الأبدي. وبأن خلاصنا في مختلف الحقب قد تمّ[26]. وينتقد المسكين عدم تمسك الرهبان بهذا وإصرارهم على الصراخ "أنا الخاطيء" والقرع على الصدور[27].

ب- مفهوم الامتلاء بالروح:
الروح القدس، في فكر المسكين، هو الأقنوم الثالث في اللاهوت. منبثق من الآب[28] في الابن[29]. وإذ يمتليء الإنسان من الروح القدس، فإن الروح القدس يحل فيه أقنوميًا، حيث يقول متى المسكين: "كان لا يمكن ولا يستطيع التلاميذ أن يتقبلوا الطبيعة الإلهية بدون المسيح، بل ولم يكن ممكنًا أن يتقبلوا الروح القدس كأقنوم إلا على أساس الاتحاد بجسد المسيح"[30].

هذا وبينما يفرق آخرون بين الحلول والامتلاء، فيقولون أن الحلول هو حلول أقنومي وهذا للمسيح فقط، وأما الامتلاء فهو امتلاء غير أقنومي[31]، نجد المسكين لا يفرق بين الحلول والامتلاء، بل يستخدم الكلمتين بالترادف، فنجده يقول: "واستيعابنا لقوة يوم الخمسين هو المُعبر عنه بالملء من الروح القدس... وهو يتم على ثلاث درجات أو ثلاث مراحل من الحلول"[32].

ويعترض تلاميذ متى المسكين على التعليم الذي يُفرق بين الحلول الأقنومي والامتلاء. حيث يوضحون أن هذا التعليم فيه خطأين مدمرين ويقودا للهلاك. الخطأ الأول هو أنه إذا كان المؤمن يمتليء من مواهب الروح فقط ولا يمتليء من أقنوم الروح نفسه. فبحسب رأيهم، أنّ المواهب ستُبطَل في الأبدية، وهذا يعني فقد للشركة مع الله نهائيًا. والخطأ الثاني يتلخص في أن الله لا يمكن أن يعطى شركة في القوة (المواهب)، بدون شركة في المحبة (الأقنوم).[33] [34]

والحلول عند المسكين يتم بثلاث وسائط: حلول الروح القدس بكلمة الإنجيل، الحلول بالأسرار، والحلول بالصلاة.[35]


ج- التأله غاية التجسد:
حلول الروح القدس واتحاده بروح الإنسان هو الخلاص عند المسكين. فخلاص الإنسان يتم باتحادنا بالله. "فإن ما صار مُتحدًا بالله هذا وحده يخلص"[36]. واتحادنا بالله هو غاية التجسد الذي هو أيضًا التأله والتبني[37].
والتأله عند الأب متى المسكين هو لفظ آبائي أصيل، وهو الحقيقة العجيبة التي وقف أمامها الآباء مدهوشين، وفي هذا يقول المسكين:
الجسد- الترابي- أخذ الشركة في طبع الكلمة... لقد كانت هذه العبارة عينها "التبني"
مدهشة حقًا وعجيبة لدى المسيحيين الأوائل. ويظهر اندهاشهم أمامها من قول يوحنا
الرسول: انظروا أي محبة أعطانا الآب حتى نُدعى أولاد الله... ولسنا نعلم ما سنكون
(أي ما هي نهاية التبني الذي دخلنا إليه) ولكننا نعلم انه متى أظهر ذاك (المسيح) فإننا
سنكون مثله. (١يو٣: ١، ٢). سنكون مثله وهو الابن والإله والكلمة، بمعنى أننا سنأخذ
شركة في صفاته كإبن وإله وكلمة، وهذا ما دعاه الآباء بالتبني، وأحيانًا بالتأله والشركة
في طبع الكلمة، كما رأينا في القول السابق.[38]

وإذا تأمل الباحث في فكر الآباء، يجد الكثير من الأقوال التي تؤيد فكر المسكين. فيجد القديس باسيليوس الكبير، على سبيل المثال، يقول: "الإنسان كائن حي أرضي، نال نعمة خاصة ليصير إلهًا"، ويعلق أحد الرهبان على ذلك بقوله: "دعوة الإنسان العليا هي: أن يحقق الإنسان كمال بشريته بأن يصير إلهًا بالنعمة"[39].

كما يذكر القديس إيرينيئوس أن الرب يسوع صار على حالنا ليجعلنا نحن على حاله هو[40]. ويؤكد القديس غريغوريوس النزينزي أن الكلمة افتقر بأخذ جسدي لكي أغتني أنا بلاهوته[41].

وأما القديس أثناسيوس فيقول في دفاعه ضد الأريوسيين: "لقد أخذ (الكلمة) لنفسه جسدًا بشريًا مخلوقًا لكي يجدده بصفته هو خالقه، فيؤلهه في نفسه... لأجل ذلك صار مثل هذا الاتحاد، لكي يوحد بالذي له طبيعة اللاهوت، ذاك الذي بطبيعته مجرد إنسان، فيصير خلاصه وتأليهه مضمونين"[42]. كما يقول في نفس الكتاب: "قد صار الكلمة جسدًا لكي يجعل الإنسان قادرًا أن يستقبل اللاهوت"[43]. أما في كتاب تجسد الكلمة، فنجد أثناسيوس يقول: "هو تأنس لكي نتأله نحن"[44].

كما يؤكد القديس كيرلس الكبير على نفس المنهج، فنجده مثلاً يقول في تفسيره لإنجيل يوحنا: "إذن فالسر الحاصل في المسيح، قد صار لنا مثل بداية وطريق لاشتراكنا في الروح القدس ولاتحادنا بالله"[45]. والمسكين يسير على نهج كيرلس الكبير في كون إتحادنا بالله لا يكون فقط على مستوى الوحدة الأدبية الأخلاقية الإرادية، بل يتخطى هذا الاتحاد ليدخل إلى وحدة كيانية "طبيعية" في جسد واحد[46]. وفي هذا يقول كيرلس الكبير:
من الخطأ أن نقول إنّ اتحادنا بالله لا يتجاوز مستوى الإرادة معه، لأنه فوق هذا
الاتحاد (اتحاد الإرادة) هناك اتحاد آخر أكثر سموًا وأكثر رفعة، يتم بعطية اللاهوت
للإنسان. فمع أن الإنسان يحتفظ بطبيعته الخاصة، إلا أنه يتحول بنوع ما إلى شكل
الله نفسه... هذه هي طريقة الاتحاد بالله، التي يطلبها ربنا من أجل تلاميذه، وذلك
بحلول اللاهوت فيهم والشركة معه.[47]

وهكذا، بعد هذا العرض الموجز لبعض أقوال االآباء حول التجسد، فإن الباحث في فكر الآباء، يجد أن لاهوت الآباء، الذي يتجلى في أقوال وشروحات كثيرة، يؤيد فكر المسكين حول التأله كغاية للتجسد، بل أننا يمكننا القول أن لاهوت المسكين ما هو إلا انعكاس أصيل للاهوت الآباء. وعلى الرغم من مئات وآلاف السنين التي تفصل المسكين عن آبائه، إلا أن الزمن وقف عاجزًا عن أن يطمس الفكر الآبائي الأصيل أو يطمره. عجز الزمن أمام شعاع النور الآبائي الأصيل، الذي استمد أصالته من روح الإنجيل، وأمام قلب باحث متعطش ساعٍ لمعرفة الله ولمعرفة ميراث الخلاص.. تلاقى شعاع الفكر الآبائي الأصيل مع قلب المسكين وعينيه المستنيرة، فكان فكر متى المسكين، فكرًا معبرًا بالحق عن روح الآباء.

الخاتمة:
مما سبق يتضح أن غاية التجسد في فكر المسكين هي تأله الإنسان. كما يتأكد أن هذا الفكر ليس مستحدثًا أو دخيلاً على الإيمان، وإنما هو فكر أصيل يستمد أصالته من الإنجيل ومن كتابات الآباء.
للمزيد حول التأله في الفكر الآبائي، يُرجى مراجعة بحث (التأله في الفكر الآبائي):

   بقلم دكتور/ ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت (PhD) - جامعة ريجينت، فرجينيا

تم إعداد هذا البحث في ٢٠٠٥
وأعيد تنقيحه في ٢٠١٢



[1] St. Athanasius, "On the Incarnation of the Word," paragraph 54, in The Nicene and
Post-Nicene Fathers of Christian Church, vol. 4, second series, edited by Philip Schaff and Henry Wace
(Grand Rapids, Michigan: Wm. B. Eerdmans Publishing Company, 1978), 65.
أيضًا: رهبان دير القديس الأنبا مقار، المسيح المخلص في تعليم القديس أثناسيوس (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ٢٠٠٣)، ١٩.
[2]  عبد الله البستاني اللبناني، البستان (بيروت: المطبعة الأمريكانية، ١٩٢٧)، ١٠٠١.
[3]  مجمع اللغة العربية، المعجم الوجيز (القاهرة: مجمع اللغو العربية، ١٩٩٢)، ٦٥.
[4]  جيمس أنس، علم اللاهوت النظامي، ترجمة منيس عبد النور (القاهرة، الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة، ١٩٩٩)، ١٩.
[5] Treatise on Prayer, 61, from: http://www.orthodoxwiki.org/Evagrius_Ponticus
[6]  نياندر هو لاهوتي ألماني ومؤرخ كنسي (1789 – 1850) وقد قال هذه الكلمات في حديثه عن أثناسيوس الرسولي.
[7] Matthew the Poor, St. Athanasius, 27.
[8]  مجمع اللغة العربية، مرجع سابق، ١٠٥.
[9]  عبد الله البستاني اللبناني، مرجع سابق، ١٦٣.
[10]  جيمس أنس، مرجع سابق، ٤٥٣.
[11]  كتابان لقداسة البابا شنودة الثالث.
[12]  متى المسكين، الروح القدس وكمال استعلان الثالوث عند القديس أثناسيوس. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٨١)، ٦٨.
[13]  متى المسكين، الروح القدس الرب المحيي- الجزء الأول. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٨١)، ١٥٢.
[14]  صموئيل مشرقي، الإلهيات. (القاهرة: الكنيسة المركزية للمجمع،١٩٨٧ )، ١٧٧.
[16]  جيمس أنس، ٢٦٦.
[17]  فانس ماسينجل، الإيمان الخمسيني. (القاهرة: أوتوبرنت، ٢٠٠٣)، ٧.
[18]  متى المسكين، شرح رسالة رومية. (وادي النطرون: مطبعة دير القديس الأنبا مقار، ١٩٩٢)، ٢٣٧.
[19]  متى المسكين، شرح رسالة غلاطية. (وادي النطرون: مطبعة دير القديس الأنبا مقار، ١٩٩٦)، ٣١٦.
[20]  متى المسكين، شرح رسالة رومية. مرجع سابق، ٢٩٦.
[21]  المرجع السابق.
[22]  متى المسكين، الروح القدس الرب المحيي- الجزء الثاني. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقاار، ١٩٨١)، ٤٠٥.
[23]  المرجع السابق، ٤٠٦.
[24]  متى المسكين، النعمة في العقيدة والحياة النسكية. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٨٧)، ١٧.
[25]  المرجع السابق، ٥١.
[26]  متى المسكين، شرح رسالة غلاطية. (وادي النطرون: مطبعة دير القديس الأنبا مقار، ١٩٩٦).
[27]  متى المسكين، ميلاد ابن الله ورجوع آدم وذريته إلى الله- عظة مُسجلة- عيد الميلاد ٢٠٠١- وادي النطرون: دير الأنبا مقار
[28]  متى المسكين، الروح القدس وكمال استعلان الثالوث عند القديس أثناسيوس. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٨١)، ٦٨.
[29]  متى المسكين، الروح القدس الرب المحيي- الجزء الأول. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٨١)، ١٥٢.
[30]  متى المسكين، التجسد الإلهي في تعليم القديس كيرلس الكبير مع عظة عن الميلاد. (وادي النطرون: مطبعة دير القديس الأنبا مقار، ١٩٨٨)، ٢٥.
[31]  صموئيل مشرقي، الظهور الإلهي. (القاهرة: كنيسة يوم الخمسين، ١٩٦٤)، ١١٢.
[32]  متى المسكين، الباركليت الروح القدس في حياة الناس. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ١٩٦١)، ٢٩.
[33]  أحد رهبان دير الأنبا مقار بالتعاون مع بعض العلماء اللاهوتيين الأكاديميين المتخصصين في آباء الكنيسة واللاهوت القبطي الأرثوذكسي، الأصول الأرثوذكسية الآبائية لكتابات الأب متى المسكين. الكتاب الثاني. (وادي النطرون: مطبعة دير الأنبا مقار، ٢٠٠٣)، ٥١، ٥٢.
[34]  يتفق الباحث مع الأب متى المسكين وتلاميذه في أن شركتنا هي مع أقنوم الروح القدس، وفي أنّ مَن يحل فينا هو أقنوم الروح القدس وليس قوته فقط، مع اختبارنا لقوته بالطبع، ويتفق الباحث تمامًا مع أن الله لا يمكن أن يعطي القوة (المواهب) بدون المحبة (الأقنوم). ولكن يختلف الباحث مع تلاميذ متى المسكين حول فكرة انتهاء وإبطال مواهب الروح في الأبدية، إذ أنه بالمتابعة المتروية لكلمات القديس بولس في كورنثوس، نفهم أن الممارسة الجزئية للمواهب التي نحياها الآن هي التي ستبطل، إذ ستبتلع في الممارسة الكاملة. فبولس يوضح أنه إذ صار ناضجًا أبطل ما للطفل، ولكن بالتأكيد احتفظ بولس بما للرجل!! فعلى سبيل المثال، الطفل يتهته في الكلام، وإذ يصير رجلاً ناضجًا، فإنه يبطل ما للطفل، فلا يعود يتهته، لكنه يتكلم كرجل كامل. أبطل التلعثم لكنه لم يبطل الكلام، بل صار متكلمًا ناضجًا. أي تم ابتلاع الناقص في الكامل. وهكذا مواهب الروح، نمارسها الآن بطريقة غير كاملة، بحسب اتساع إناء كل شخص فينا، لكن هناك سيبتلع الناقص في الكامل، إذ ستمجد الأواني.
[35]  متى المسكين، الباركليت الروح القدس في حياة الناس. مرجع سابق، ٢٩.
[36]  رهبان دير الأنبا مقار، وجودنا وكياننا في المسيح في فكر القديس كيرلس الكبير. (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ١٩٩٤)، ٩.
[37]  رهبان دير الأنبا مقار، المسيح المخلص في تعليم وكنابات القديس أثناسيوس الرسولي. (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ٢٠٠٤)، ٥١، ٧٤.
[38]  رهبان دير الأنبا مقار، التبني في المسيح يسوع في فكر آباء الكنيسة. (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ١٩٩٤)، ١٥.
[39]  رهبان دير الأنبا مقار، دعوة الإنسان العليا أو القصد الإلهي من إبداع الإنسان بحسب تعليم آباء الكنيسة. (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ١٩٩٤)، ٥.
[40]  رهبان دير الأنبا مقار، التبني في المسيح يسوع في فكر آباء الكنيسة. مرجع سابق، ٦.
[41]  آباء الكنيسة، أقوال مضيئة لآباء الكنيسة. (القاهرة: دار القديس يوحنا الحبيب، ٢٠٠٨)، ٤٤.
[42]  المرجع السابق، ٥٦.
[43]  المرجع السابق، ٧٠.
[44]  المرجع السابق، ٦٦.
[45]  المرجع السابق، ٧٢.
[46]  رهبان دير الأنبا مقار، الكنيسة جسد المسيح في تعليم القديس كيرلس الكبير. (وادي النطرون: دار مجلة مرقس، ١٩٩٣)، ١٣.
[47]  المرجع السابق، ٦١.
------------------------------------------------------------------


 ملحوظة: لمعرفة المزيد عن هذا الموضوع، يُرجى مشاهدة حلقات شخصيات كتابية للأب دانيال على الموقع:

المُلك الألفِي...

   بقلم دكتور/ ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت (PhD) - جامعة ريجينت، فرجينيا
المقدمة:
"عند مولده سَجد له رجالٌ من الشرق باعتباره "ملك اليهود" وعند موتِه كَتب فوق صليبه رجالٌ من الغرب لافتة: "ملك اليهود".
فكالملك وُلِد، وكالملك دخل في موكب وديع إلى أورشليم، وكالملك حوكم وأُدين، وكالملك اعترف به اللص التائب. لكن القصة لم تنته عند هذا الحد، فإنه عن قريب كالملك سيعود، لأنه الملك الموعود.
لقد أتى مرة ليُخلِّص، وسيأتي ثانية ليدين. لقد أتى مرة في تواضع وصلبوه، وهذا هو نصف الحق، أما نصفه الآخر فهو مجيئه الثاني بالمجد، وعلى رأسه التيجان الكثيرة، ليسود على الكل.
عن قريب سيملك ذلك الملك المُعظم في كل البقاع، وسيكون الاعتراف به والسجود له بالإجماع"[1]
بهذه الكلمات البسيطة والعميقة عبر أحد المؤمنين الأتقياء عن حقيقة مُلك المسيح الآتي على الأرض، الحقيقة المَعروفة بالمُلك الألفي أو مُلك الألف سنة. هذه الحقيقة التي نجد صداها مُدويًا في الوحي المقدس عبر مواضع مُتعددة في العهدين القديم والجديد على السواء.

وعلى الرغم من أن مُلك الألفِ سنة هو حقيقة تُعزي كثيرين، وتُشدد إيمانهم، وتُقوي رجاءهم، بل ويعتبرها الكثيرون بمثابة العصر الذهبي السعيد[2] الذي سيملك فيه المسيح الملك. إلا أن هذه الحقيقة  عينها، حيرت كثيرين، وتعثر فيها كثيرون، بل ورفضها البعض الآخر رفضًا قاطعًا، لا هوادة فيه واعتبرها البعض الآخر تراثا عبريًا غير أصيل، تسرب إلى المسيحية ضمن ما ورثته من التراث العبري.[3]

وما بين أولئك وهؤلاء، بل فوقهم جميعًا، يعلو صوت الوحي المقدس، مُناديًا، ومُشجعًا: " مُبارك ومُقدس مَن له نصيب في القيامة الأولى. هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم، بل سيكونون كهنة لله والمسيح وسيملكون معه ألف سنة. " (رؤ20: 6).
وأمام إعلان الوحي الصريح، تنحني الجباه وتصمت الألسنة، بخضوع وانتباه، مقتربة ً لكلمات الوحي المقدس بالإجلال، وبكل نشاط واجتهاد، كأهل بيرية المكتوب عنهم " فقبلوا الكلمة بكل نشاط فاحصين الكتب كل يوم. " (أع7: 11).
وعلى هذا، فإن هذا البحث هو دراسة في الإصحاح العشرين من سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي، الأعداد العشر الأوَّل، وهي تلك الأعداد التي تكرر فيها اصطلاح "الألف سنة" ست مرات.

إذ يناقش هذا البحث " أصالة الاعتقاد بالملك الألفي من خلال التفسير الكتابي الصحيح ".
حيث يتناول هذا البحث تفسير النص الكتابي المُشار إليه (رؤ20:1 -10) تفسيرًا طبيعيًا (حرفيًا)، أي تفسير النص كما هو وبالطريقة الطبيعية لاستخدام اللغة، متتبعًا المجرى اللاهوتي (أي متتبعًا الحقائق اللاهوتية للموضوع عبر أسفار الكتاب بعهديه)[4]، لبعض الاصطلاحات الأخرى الواردة في النص والتي تخص موضوع البحث وفاحصًا الآراء المختلفة حول مُلك الألف سنة، ومُبرهنًا على أصالة الاعتقاد بالمُلك الألفي، باحثًا في طبيعة هذا المُلك، وزمانه، ومكانه، ومَن هم الذين سيملكون فيه مع المسيح.
وذلك من خلال تقسيم النص إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول ويتضمن الأعداد (1 - 3) والقسم الثاني ويتضمن الأعداد (4 -6) والقسم الثالث والأخير ويتضمن الأعداد (7 - 10)
وذلك من خلال اتباع أسلوب الكتابة الأفقي في كتابة البحث.

الفصل الأول: رؤ10: 1 – 3
في الأعداد الثلاثة الأولى من النص موضوع الدراسة ورد اصطلاح "الألف سنة" مرتين مُعَبرًا عن فترة زمنية أثناءها يقيد التنين، أو الحية القديمة، ويطرح في الهاوية ويُغلق عليه, وذلك لكي لا يُضل الأمم. ثم يُحَل زمانًا يسيرًا بعد انقضاء الألف سنة. هذا وتثير هذه الأعداد ثلاث أسئلة رئيسية:
السؤال الأول حول طبيعة فترة الألف سنة وهل هي حرفية أم رمزية، والسؤال الثاني حول ماهية التنين  وهل هو مقيد الآن أم لا، أما السؤال الثالث فهو حول ماهية الهاوية. ويجيبنا الوحي الإلهي على هذه الأسئلة بوضوح كالآتي:
طبيعة الألف سنة:
الألف سنة، هي ألف سنة حرفية، إذ لم يُصرح الوحي بأنها رمز لأي شيء، أو مَجَاز عن أي شيء. ولكن على العكس، لقد استخدمها الوحي في هذا الجزء وفي أجزاء أخرى تابعة بطريقة صريحة ومحددة. وعلى هذا فإن الألف سنة تساوي ألف سنة. ويؤيد هذا الرأي متى هنري، إذ يقول في تفسيره: "أما مُدة هذا الحُكم على الشيطان فهي "ألف سنة" وبعدها يُحل ثانية ً لمدة وجيزة"[5]. كما أورد هذا الرأي أيضًا ابن الكاتب القيصر وهو أحد علماء الكنيسة الأرثوزكسية القبطية، إذ يؤكد في تفسيره على حرفية الألف سنة[6].
ويعترض البعض على هذا قائلين أن الله لم يقصد "ألف سنة" حرفية وإنما ذكر هذا مجازًا، كناية عن طول المدة[7]. ويرد الكتاب المقدس بنفسه على هذا الاعتراض بأنه في جميع النبوات التي حدد الله فيها أزمنة مُعينة، تمت هذه النبوات بحرفيتها، وهذا هو ما يذكره يوسف رياض في كتابه (المسيح الملك)، إذ يذكر، على سبيل المثال لا الحصر، تحديد الله لسِني اغتراب نسل إبراهيم بأربعمئة عام وكيف تم هذا حرفيًا (تك15: 13 , أع7: 6) ويذكر أيضًا تحديد سنين السبي البابلي بأنها سبعين عامًا تمت حرفيًا (ار25: 12 , دا9: 2) بل أن الأسبوع الأخير المَذكور في سفر الرؤيا هو سبع سنين حرفية، إذ أن نصفه مذكور بالسنين ثلاث سنوات ونصف (رؤ12: 14) وبالشهور اثنين وأربعين شهرًا (رؤ13: 5) بل وبالأيام ألف ومائتين وستين يومًا (رؤ12: 6)[8].
وعلى هذا، فإنه لا مجال للاعتراض بأن الألف سنة هي فترة مجازية، إذ لا يستقيم هذا الرأي مع الحوادث والشواهد الكتابية المذكورة، فالألف سنة حرفية ويُقيَد فيها التنين، والسؤال الآن حول ماهية هذا التنين، وهل هو مُقيد الآن أم لا؟
ماهية التنين، وهل هو مُقيد الآن أم لا؟
يُفسر النص، بذاته، السؤال المُتعلِق بماهية التنين، إذ يقول: "فقبض على التنين، الحية القديمة، الذي هو إبليس والشيطان" إذًا فالتنين أو الحية القديمة هو إبليس أو الشيطان، هذا ويمكن أيضًا ملاحظة استخدام اسم التنين مُقترنًا بإبليس في (رؤ12: 9) كما يمكن أيضًا فهم استخدام اسم الحية القديمة مُقترنًا بإبليس وذلك بالرجوع إلى قصة سقوط الإنسان (تك3: 1, 13). ويكتب الرسول يوحنا بالروح القدس أنه رأى الشيطان يُقبَض عليه ويُقيَد لمدة ألف سنة، هذا ويعتقد البعض بأن هذا حادث الآن، أي أن الشيطان مُكَبَلا ً الآن في هذا العصر، عصر الكنيسة، ويبرهن البعض على ذلك بانتشار الكرازة في العالم كله[9]، ويعتقد البعض الآخر أن الشيطان مُقيد الآن بمعنى أنه قد كُبِح جماحه، ليس من كل شر ولكن لكي لا يضل الأمم.[10]
هذا ويجيب الكتاب المقدس أيضًا على هذا الاعتقاد الخاطيء، فكيف يكون الشيطان مقيد الآن والرسول بولس يحذرنا منه قائلا ً "لا تعطوا إبليس مكانًا" (أف4: 27) بل ويقول عنه الرسول بطرس بوضوح "إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو" (1بط  5 : 8)، هذا وتثبت الأحداث أيضًا على المستوى العالمي أن إبليس يعمل جاهدًا على إضلال الأمم، وإلا فما تفسير تلك الأمم التي تحيا في ظلام بعيدة عن حق الإنجيل. بل أن العدد الثالث من النص موضوع الدراسة يقول أن إبليس بعدما قيد، طُرح في الهاوية وأغلق عليه، وعلى هذا لا يترك النص أي مجال لاستخدام المجاز في التفسير أو محاولة التفسير تفسيرًا روحيًا، إذ أنه بمتابعة المجرى اللاهوتي لماهية الهاوية، يتضح أن الهاوية هي مكان حقيقي، وعليه فإن إبليس سيقيد ألف سنة حرفية ويُلقى في مكان حقيقي وهو الهاوية التي سيتم توضيح ماهيتها في الجزئية القادمة، لإثبات أن إبليس غير مُقيد فيها الآن، وعليه فالملك الألفي لم يبدأ بعد.

ماهية الهاوية، وهل إبليس مُقيد فيها الآن أم لا؟ 
يختلف الكثيرون حول ماهية الهاوية....... فيرى البعض أن الهاوية حالة وليست مكانًا[11]   أو أنها الدفن والمُكوث في حال الموت[12]. وبفحص هذا الرأي في ضوء الكلمة المقدسة، يلاحظ أنه لا يوجد له سند كتابي كافٍ، بل على العكس، تكلم الرب يسوع بوضوح عن الهاوية كمكان حقيقي في قصة الغني ولعازر (لو16: 19). هذه القصة التي لا يمكن التعامل معها كمثل إذ أنه لا يوجد في تفاصيلها ما يشير إلى أنها مثل، بل يوجد ما يؤكد أنها واقعية، إذ يذكر الرب اسم أحد شخصياتها وهو لعازر.[13]
وكلمة هاوية في الأصل العبري، تنطق "شاؤول"، وجاء عنها في سفر العدد (عد16: 20) :
"فتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل ما لهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية" وذلك يدل على أنها مكان، إذ ابتلعتهم أحياء، فهي ليست حالة، وهذا المكان كما يوضح النص يقع أسفل الأرض، كما أن سفر الرؤيا يقول أن البحر سلم الأموات الذين فيه (رؤ20: 13) وهذا يدل على أن جزء من الهاوية يقع أسفل البحر.  وتذكر قصة الغني ولعازر قسمين في الهاوية، القسم الأول لأرواح الأبرار وهو الذي كان فيه إبراهيم و لعازر، والقسم الثاني لأرواح الأشرار وقد كان فيه الغني، وكان بين القسمين هوة عظيمة (لو16: 26)، ويعبر عن هذين القسمين في اليونانية بالكلمة "هادِس". غير أن العهد الجديد يستخدم لفظًا آخر، ترجِم في العربية هاوية أو بئر الهاوية، وينطق"أبيسوس" ومعناه الحرفي مكان لا قرار له، وهو ذات اللفظ الذي استخدِم في الأعداد موضوع هذه الدراسة، وقد ارتبط استخدام هذا اللفظ في العهد الجديد بالأرواح الشريرة[14] مثل ما جاء في (لو8: 31) و(رؤ9: 1, 2).

وعلى هذا يمكن التلخيص بأن الهاوية هي مكان حقيقي يقع تحت الأرض وتحت البحر، يحتوي على قسمين، أحدهما كان للأبرار، وذلك حتى نزول المسيح وتحريره لنفوس الأبرار، بعد الصليب (أع2: 27, 31 و مز16: 10 و أف4: 8- 10) والقسم الآخر للأشرار، وهم باقون فيه حتى الآن، وبين هذين القسمين هوة عظيمة، وقسم ثالث للأرواح الشريرة، الكلمة اليونانية الدالة عليه لم تستخدم قط للقسمين الآخرين، وهذا هو المكان الحرفي الذي لم يُلقى فيه إبليس حتى الآن ولكنه سيُلقى فيه مُقيدًا لمدة ألف سنة، أثناءها يملك المؤمنون مع المسيح على الأرض، وتفاصيل هذا المُلك هي موضوع الفصل القادم.

الفصل الثاني: رؤ10: 4 - 6
ورد في الأعداد (4-6) من النص موضوع الدراسة، اصطلاح الألف سنة ثلاث مرات، مُعبرًا عن فترة يملك أثناءها فئة من الناس مع المسيح. وقد ورد عن هذه الفئة أنهم قاموا في القيامة الأولى وليس للموت الثاني سلطان عليهم. وقد أوضح الفصل السابق حرفية فترة الألف سنة، وحرفية تقييد إبليس أثناءها وإلقائه في الهاوية. وأما هذا الفصل فيجيب على الأسئلة الرئيسية التي تثيرها هذه الأعداد، ألا وهي: ما المقصود بملك الألف سنة أو الملك الألفي؟ وما هي القيامة الأولى؟ وما معنى الموت الثاني؟
مُلك الألف سنة:
تؤكد الأعداد (4-6) على مُلك الألف سنة، وتوضح أن هذا المُلك سيحدث بعد القيامة الأولى. هذا وتؤكد نبوات العهد القديم على حقيقة هذا المُلك في أكثر من موضع، مثل ما جاء بسفر المزامير "أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي...اسألني فأعطيك الأمم ميراثك وأقاصي الأرض ملكًا لك" (مز2: 6, 8)، وأيضًا مزمور 45 الذي نرى فيه المسيح ملك مُتوج (مز45: 6, 7) ومزمور 72 الذي يصف هذا المُلك ويقول أنه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض (مز72: 8)، وهذا أيضًا ما ذكره زكريا (زك9: 10)، كما تنبأ بهذا أشعياء، إذ قال عن المسيح تكون الرياسة على كتفه ويملك على كرسي داود (اش9: 6,7) وكذلك رأى ذلك دانيال في رؤى الليل (دا7: 13,14)، بل أن الملاك جبرائيل أعلن عن هذا الملك في بشارته للعذراء مريم (لو1: 31,32)، هذا وتكلم المسيح له المجد عن هذا الملك وأطلق عليه " التجديد " (مت19: 28)، وقد سأله تلاميذه عن زمان الملك قبل صعوده إلى السماء (أع1: 7). كما يعلن سفر الرؤيا عن هذا الملك في الأعداد موضوع الدراسة.
هذا ويؤيد الكثير من علماء الكنيسة في القرون الأولى الرأي القائل بالملك الألفي مثل إيريناوس وترتليانوس ويوستينوس وآخرون[15]، إذ يشهد إيريناوس مثلا ً أن مَن يعتقدون بالملك الألفي هم مستقيمو العقيدة، ويقول جوستين الشهيد أنه واثق أن له فكر سليم من جهة أنه سيكون هناك ملك ألفي. كما يعلق المؤرخ فيليب شاف قائلا ً ما معناه أن أبرز نقطة في التعليم الاسخاتولوجي[16]، عند آباء ما قبل نيقية[17]، كانت تعليم المُلك الألفي[18]. ويتفق ابن القيصر أيضًا أن الملك الألفي عقيدة سليمة كتابيًا.[19]

وعلى الرغم من هذا كله، إلا أنه يوجد البعض ممن لهم رأي مخالف لهذا، إذ تنقسم الآراء في هذا الأمر إلى ثلاثة اتجاهات أساسية، وهي كالآتي:
الاتجاه الأول: وهو ما يؤيده الباحث، وقد تم شرحه وإثباته كتابيًا وتاريخيًا، وملخصه أن الملك الألفي حرفي ويحدث بعد القيامة الأولى ومجيء المسيح يسبقه، لذا يسمى Pre-Millennium أي سابق الألف سنة، ومن أوصاف الحياة التي يوضحها لنا الكتاب المقدس في فترة الملك الألفي، أن الشيطان يكون مُقيدًا، وتعود الحيوانات لطبيعتها الأليفة (اش11: 6- 8) وتغطي معرفة الرب الأرض كما تغطي المياه البحر ولا يوجد حرب (اش2: 2 -4) وتطول الأعمار (اش65: 20). وتتضح دائرتان للمُلك، الدائرة السماوية (رؤ21: 9- 26) حيث الشعب السماوي، الذي هو الكنيسة، والدائرة الأرضية حيث الشعب الأرضي (إش11: 11- 13, 33: 24). وسيتم حكم الدائرة الأرضية من خلال الدائرة السماوية حيث أن الكنيسة لن تعود لتستقر فى الأرض مرة أخرى. لكن ستحكم الأرض من خلال الدائرة السماوية، حيث ستكون الحدود بين الأرض والسماء قد اختفت، وسينتقل المؤمنون بالأجساد المُمَجَدَة بين الأرض والسماء. ولكن سيبقى المسيح الملك هو مركز الدائرتين السماوية والأرضية[20]، ويُبنى الهيكل في أورشليم (زك6: 12)[21]. كما سُمي المُلك الألفي بعدة مُسميات في كلمة الله، منها: ملكوت ابن الإنسان(مت16: 28)، أوقات الفرج(أع3: 19)، أزمنة رد كل شيء(أع 3: 20, 21)، ملء الأزمنة(أف1: 9, 10)، العالم العتيد(عب2: 5)[22].
الاتجاه الثاني: والباحث لا يتفق مع هذا الاتجاه ولا يؤيده. وينادي هذا الاتجاه بأن مجيء المسيح والقيامة سيكونا بعد الملك الألفي، ولذا يسمى Post-Mill أي لاحق الألف سنة[23]. وهذا الاتجاه ينادي بأن الملك الألفي سيتم نتيجة ما يحدث الآن من الكرازة بالإنجيل وامتداد الكنيسة، إذ يأتي الوقت الذي يكون المسيح فيه ملكًا على الأرض وذلك عندما يقبل العالم كله الإنجيل، وبعد فترة الملك هذه يأتي المسيح في مجيئه الثاني. ويرد الكتاب المقدس بنفسه على هذا الاعتقاد الخاطيء ونجد هذا الرد مذكورًا في دائرة المعارف الكتابية[24] ويمكن إيجازه في أن المسيح لم يعلم أبدًا أن الإرسالية للكرازة أو التلمذة ستجدد العالم كله بل على العكس تكلم المسيح عن الاضطهاد والألم وأخبر بأن البعض سيرفضون الإنجيل. كما علم المسيح بوضوح أنه عند مجيئه سيكون هناك قمح وزوان وخراف وجداء، أي أنه عند مجيئه سيكون هناك مَن لا يملك الرب عليهم وهؤلاء هم الذين للهلاك، فلا مجال لموضوع قبول العالم كله للإنجيل في هذا الكلام. أيضًا الرسل لم يشيروا أبدًا في تعليمهم أنهم ينتظرون مُلك من البر والسلام قبل مجيء المسيح، بل على العكس فقد حذر بولس من أنه ستأتي أزمنة صعبة في الأيام الأخيرة (2تي 3: 1) كما قال للتسالونيكيين أن مجيء الرب لابد أن يسبقه الارتداد وظهور إنسان الخطية (2تس2: 1-12). وكل هذا يبطل الرأي القائل بأن الملك الألفي سيحدث قبل المجيء الثاني نتيجة الكرازة بالإنجيل.
الاتجاه الثالث: والباحث لا يتفق مع هذا الاتجاه ولا يؤيده.  وينكر هذا الاتجاه مُلك الألف سنة تمامًا، ويدعى Amillennium، ويتعامل مع النصوص بمدرسة تفسيرية يُطلق عليها مدرسة التفسير الروحي[25]، ويرى الألف سنة مجاز وقد تم تفنييد هذا في الفصل الأول من البحث، كما يُفسر النصوص التي تتكلم عن مُلك المسيح، بطريقة روحية فقط، على أنها فقط تتكلم عن مُلك روحي على المُجَدَدِين أو المولودين بالروح القدس، ويرى أن ملكوت المسيح يتحقق فقط الآن في القلوب، والمسيح يملك الآن روحيًا على أورشليم التي هي كنيسته وقد تم إحلالها محل إسرائيل كأمة (Replacement Theology) كما يؤمن مُعتنقي هذا الفكر بقيامة واحدة عامة للأبرار والأشرار معًا[26]. ويستند أصحاب هذا الرأي بصفة أساسية على قول المسيح: "مملكتي ليست من هذا العالم" (يو18: 33)، ويتجاهلون أن المسيح له المجد أضاف: "ولكن الآن ليست مملكتي من هنا" (يو18: 36) فإضافة كلمتي (لكن والآن) تفيد أن هذا النفي ليس مُطلقًا بل إلى حين[27]. هذا ولا يتفق اتجاه إنكار الملك الألفي الحرفي مع الأدلة الكتابية، كالآتي:
1-     كثير من النبوات التي تتكلم عن مُلك المسيح، تتكلم عن مُلكه على بيت يعقوب وعن جلوسه على كرسي داود أبيه (لو1: 32, 33) وهذا لم يحدث حتى الآن، ولا يمكن القول بأن الجلوس على كرسي داود هو الجلوس عن يمين الآب، لأن هذا ليس له أي سند كتابي.
2-     في المُلك الألفي يكون الخضوع للرب كليًا، على أن هذا غير مُتحقق الآن، ويقول كاتب العبرانيين "على أننا لسنا نرى الكل بعد مُخضعًا له" (عب2: 28)[28].
3-     في المُلك الألفي يكون الشيطان مُقيدًا وفي الهاوية، وقد تم إثبات أن هذا غير حادث الآن.
4-     تتحدث النبوات عن فترة يسود فيها السلام، وذلك حتى بالنسبة لمملكة الحيوان، فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدي، وهذا غير مُتحقق الآن.
5-     النص موضوع الدراسة يُعَلِم أن المُلك الألفي سيكون بعد القيامة الأولى، وأن هناك من المقامين فئة هم الذين لم يسجدوا للوحش، وواضح أن هذا لم يحدث حتى الآن، لأن الوحش لم يظهر حتى الآن. 
عند الإمعان في النص موضوع الدراسة، يُلاحظ أن الوحي يُعرِّف القيامة الأولى بأنها القيامة التي فيها أمرين: عاشوا وملكوا، وعند الرجوع لأصل كلمة عاشوا في اليونانية نجدها الفعل الذي يُنطق (إيزيسان) وأصلها الفعل الذي يُنطق (زاو) ويُستخدم بمعنى " يحيا أو يقوم " إذ نجد نفس هذا الفعل هو المُستخدم في (1كو15: 21- 23) وهو نص يتكلم عن القيامة من الأموات، بل أن هذا الجزء تمت ترجمته في التفسير التطبيقي للعهد الجديد "عادوا إلى الحياة وملكوا". ومن الواضح بالطبع أنه حتى الآن لم يعد أيًا من المؤمنين إلى الحياة ليملك، وإنما سيتم هذا بعد القيامة الأولى التي هي موضوع الجزئية التالية من البحث.

القيامة الأولى، وعلاقتها بالألف سنة :
توضح الكلمة المُقدسة في الأعداد موضوع الدراسة أنه توجد قيامتان. القيامة الأولى ويُوصَف مَن له نصيب فيها بأنه مُبَارك ومُقَدَس، والقيامة الثانية ويقول عنها الوحي أنها بعد تمام الألف سنة "وأما بقية الأموات فلم تعِش حتى تتم الألف سنة" وقد تم توضيح المقصود بالفعل "تعش" على أنه "تحيا أو تقوم". وعلى هذا يُمكن ترجمة العدد الخامس "وأما بقية الأموات فلم تقم حتى تتم الألف سنة" وهذا يُبرهن على صحة الاعتقاد بالقيامتين. هذا ويُمكن تلخيص وجهات النظر الموجودة في هذا الموضوع إلى اتجاهين رئيسيين:
الاتجاه الأول: المُخالف للرأي القائل بالقيامتين، وهو الاتجاه اللاألفي، وهو ما لا يؤيده الباحث.
ويؤمن معتنقو هذا الاتجاه بقيامة واحدة عامة تحدث في نهاية الأيام[29] وملخصها أن أجساد البشر جميعًا ستقوم من التراب في اليوم الأخير للمجد أو الهوان[30]. ويفسرون القيامة الأولى على أنها تشير إلى انتقال الشخص من الموت إلى الحياة بالولادة الثانية[31] والكتاب المقدس يُجيب على هذا الاعتقاد الخاطيء بعدة أدلة، يُمكن إيجازها كالآتي:
1-     النص موضوع الدراسة يُثبت إقتران القيامة بالمُلك، وعلى هذا لا يُمكن جعل هذه القيامة روحية.
2-     لا يستقيم تفسير القيامة الروحية (التي تحدث عند تجديد الإنسان) مع قيامة الذين قتلوا من أجل شهاده يسوع والذين لم يسجدوا للوحش، فلا يمكن ان يُقتل شخص جسديًا ثم بعد ذلك يولد بالروح القدس أو يتجدد، ولا يُعقل ان يموت شخص لأجل شهاده يسوع وهوغير مُقام روحيًا أى غير مولود ثانيةً وعليه فإنه ينتظر القيامة الروحية أو التجديد.
3-     تظهر الرسالة إلى التسالونيكيين أنه عند مجيء المسيح فى الهواء فإن الذين سيقومون هم الأموات فى المسيح فقط (1 تس 4 : 16) مما يبطل فكرة القيامة العامة.
4-     فى الرسالة إلى فليبى يقول الرسول بولس "لعلى أبلغ قيامة الأموات" (فى 3 : 11) والطبيعى أنه إذا كانت القيامة هى قيامة عامة، لما تمنى بولس أن يبلغها، لأن الكلُ فى هذه الحالة سيبلغها، وهذا يدل على ان بولس كان يشتهى قيامة ستحدث لبعض الأموات وهى القيامة الأفضل ( عب 11 : 35 ) أو القيامة الأولى.
الاتجاه الثاني: سبق ذكره، وهو ما يؤيده الباحث، وهو الاعتقاد بقيامتين، القيامة الأولى وتسبق المُلك الألفى والقيامة الثانية بعد المُلك الألفى. هذا ولابد من التنويه إلى ان القيامة الأولى تحدث على مراحل أو كما قال بولس "كل واحد فى رتبته" (1كو 15 : 23) ، وحول مراحل القيامة الأولى توجد عده أراء:
- الرأي الأول: المسيح باكورة (1كو15: 23) ثم قيامة جميع المؤمنين الذين هم الكنيسة التى بدأت يوم الخمسين إلى أخر مؤمن عند الأختطاف. ( 1تس 4 : 16 ) وذلك قبل أسبوع الضيق، وأخيرًا قيامة قديسي فترة الضيقة مع قديسى العهد القديم، وذلك بعد أسبوع الضيقة، أى عند مجيء المسيح قبل المُلك الألفى.[32]
- الرأي الثاني: يختلف مع الأول حول توقيت قيامة قديسى العهد القديم، إذ يقول أنهم سيقومون مع الكنيسة قبل أسبوع الضيقة، وأن بعد أسبوع الضيق سيقوم قديسو فترة الضيقة فقط.[33]
- الرأي الثالث: (وهو ما يميل إليه الباحث). المسيح باكورة (1كو15: 23) ثم في مُنتصف أسبوع الضيق يحدث اختطاف الغالبين من الكنيسة الذين هم باكورة الكنيسة أو المُستعدون للقائه المجيد على حد تعبير الفاضل القس إبراهيم سعيد (أول راعي لكنيسة قصر الدوبارة الإنجيلية، من عام 1940 إلى 1975) الذي يَلذ له هذا الرأي[34]، وتجتاز بقية الكنيسة (المؤمنون الغير مستعدون) في الضيقة العظيمة، ثم يقوم في نهاية أسبوع الضيق، قديسو العهد الجديد الغالبين (والبعض يقول جميع المؤمنين حيث يملك الغالبين ويكون الغير غالبين من الرعية)، وقديسو العهد القديم الذين قيل عنهم "لكي ينالوا قيامة أفضل" (عب 11) ويصاحبهم قديسو الضيقة[35]، لتكتمل القيامة الأولى ويبدأ الملك الألفي للمسيح مع الغالبين. وأما بقية الكنيسة من غير الساهرين (العذارى الجاهلات) فيُقامُون بعد الملك الألفي في القيامة الثانية حيث يجدون أسمائهم مكتوبة في سفر الحياة[36]. وهذا يفسر قول الرسول بولس "لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات"، إذ اشتهى بولس أن يكون من الغالبين الذين يملكون مع الرب في الملك الألفي.
وواضح أن أول الآراء وثانيهما متفقان فيما عدا جزئية اختلاف صغيرة، وأما ثالث الآراء فيختلف عنهما كثيرًا، إذ أنه بحسب الرأي الثالث فإن مَن سيدخل الملك الألفي ليملك هم فئة معينة من الكنيسة وهم الغالبون ومعهم قديسو العهد القديم وقديسو الضيقة، وهذا يتفق كتابيًا مع الوعود التي يعطيها الرب للغالبين في الكتاب المقدس. أما الرأيين الأول والثاني فإن الداخلين للملك (لا يميز ما بين مَن يملك والرعية) هم الكنيسة كلها ساهرون وغير ساهرون ومعهم قديسو العهد القديم وقديسو الضيقة.
ماهية الموت الثاني:    
     يُفسر لنا باقي الاصحاح العشرين ماهية الموت الثاني، إذ يصف في الأعداد (11- 15) كيف أن الأموات سوف يدانون بعد القيامة الثانية أمام العرش الأبيض العظيم. ويقول أن كل مَن لم يوجد مَكتوبًا في سفر الحياة طُرِح في بحيرة النار والكبريت، ويقول عن هذا الطرح في بحيرة النار "هذا هو الموت الثاني" (رؤ20: 14, 15). ولكن كيف انتقلت الصورة من زمان الملك الألفي السعيد إلى الدينونة الرهيبة والموت الثاني ؟ هذا هو موضوع الفصل القادم.
الفصل الثالث: رؤ10: 7 – 10
في الأعداد موضوع الدراسة (7 - 10) يرد اصطلاح الألف سنة مرة واحدة، وذلك في العدد السابع. إذ يُوَضح ماذا سيحدث عند تمام الألف سنة، والذي يمكن ترتيبه بحسب ما جاء في الكلمة المقدسة كالآتي:
- يُحَل الشيطان من سجنه: وهو مؤكد سابقًا في (رؤ10: 3) إذ سيُطلق الشيطان من الهاوية التي حُبس فيها، وسيكون إطلاقه هذا لزمان يسير ولغرض مُحدد.
- الغرض من حَل الشيطان: يجيب العدد الثامن قائلا ً: " ليُضل الأمم " ويسرد هنري ثيسن موضحَاً هذا قائلا ً: "ربما كان السبب هو إظهار عدم جدية بعض مَن خضعوا للمسيح خلال الألف عام وربما لإثبات أن قيد الشيطان ألف سنة في الهاوية لم يغير منه شيئًا"[37] وحول ماهية هذه الأمم التي سيضلها الشيطان، من الواضح أنهم وُلِدوا في أثناء الملك الألفي ولم يؤمنوا بالرب الملك بالحقيقة في قلوبهم، ولكنهم كانوا خاضعين خوفًا ورعبًا من الرب الملك (مز66: 3)[38].
- جوج و ماجوج: يستطرد الوحي المقدس قائلا ً: "ليُضل الأمم في أربع زوايا الأرض: جوج وماجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمل البحر" وبالرجوع إلى سفر التكوين يتضح أن ماجوج هو اسم أحد أبناء يافث (تك10: 2) و"جوج و ماجوج" توجد في نبوات حزقيال, إذ يقول الرب: "يا ابن آدم, اجعل وجهك على جوج وأرض ماجوج رئيس روش ماشك وتوبال وتنبأ عليه" (حز38: 1) و يربط الكثير من المفسرين بين جوج وماجوج وأجزاء من الأرض في روسيا ومنغوليا وحدود ألمانيا الشرقية.[39]
- مُعسكر القديسيين أو المدينة المحبوبة: يُخبر الوحي المقدس أن الأمم الذين سيضلهم إبليس، سيصعدون على معسكر القديسيين أو المدينة المحبوبة. والمدينة المحبوبة هي أورشليم المكتوب عنها "الرب أحب أبواب صهيون أكثر من جميع مساكن يعقوب. قد قيل بك أمجاد يا مدينة الله" (مز87: 2, 3)، وأيضًا " البسي ثياب جمالك يا أورشليم المدينة المقدسة" (اش52: 1). وإذ يحيط العدو وجيوشه بأورشليم، تنزل من عند الله نار من السماء وتأكلهم، ويُلقى إبليس في بحيرة النار والكبريت.
- بحيرة النار والكبريت: ورد في سفر الرؤيا عن بحيرة النار والكبريت أنها الموت الثاني ( رؤ20: 14 , 21: 8) وهي مكان كل مَن لم يوجد أسمه مكتوب في سفر الحياة (رؤ20: 15) كما أنها المكان الذي يطرح فيه الوحش والنبي الكذاب (رؤ19: 20) ومعهم إبليس (رؤ20: 10) إلى أبد الآبدين. ويعلمنا الوحي المقدس أن العذاب في بحيرة النار والكبريت سيستمر لأبد الآبدين وذلك ينفي أي فكرة تقول بفناء الأشرار، فالأشرار لن يفنون لكن سيُعذبون إلى أبد الآبدين، بينما سينعم الأبرار مع الله الآب والابن والروح القدس إلى أبد الآبدين.
الخاتمة
"مُستحق أنت أن تأخذ السفر وتفتح ختومه، لأنك ذبحت واشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة، وجعلتنا لإلهنا ملوكًا وكهنة، فسنملك على الأرض" (رؤ5: 9،10)
ستدوي كلمات هذه الترنيمة أمام العرش الإلهي، سترنمها الألسنة مُعترفة بفضل الذي خلصنا وجعلنا ملوكًا وكهنة، وبينما يدوي صوت ترنيمة المُلك، يُرى بريق تيجان، لا حصر لها مُلقاة أمام العرش. فقد ألقاها الملوك المخلصين تحت أقدام ملك الملوك ورب الأرباب.
تثبت هذه الترنيمة، كما أثبت هذا البحث، أصالة الاعتقاد بالمُلك الألفي، حيث أن:
-        فترة الألف سنة هي ألف سنة حرفية، يُقيد فيها إبليس، إذ أنه ليس مُقيدًا الآن.
-        وإذ يُقيد إبليس، فإنه سيلقى في الهاوية التي هي السجن، ويملك المؤمنون الغالبون مُلكًا حرفيًا على الأرض لمدة الألف سنة.
-        يوجد قيامتان: القيامة الأولى، قبل المُلك الألفي، وهي للمؤمنين الذين سيملكون. والقيامة الثانية بعد الملك الألفي.
-        في نهاية الألف سنة، يُحل الشيطان مُدة يسيرة ليُضِل الأمم، ويحاصر المدينة المحبوبة التي هي أورشليم، تنزل نار من السماء وتأكل الأمم المُجتمِعَة على المدينة المحبوبة.
-        يُلقى الأشرار في بحيرة النار حيث يُعَذبون للأبد وهذا هو الموت الثاني، يُلقى إبليس في البحيرة المُتقدة بالنار والكبريت إلى أبد الآبدين.
وأخيرًا، إذ تأكد اليقين من حقيقة هذا الرجاء المُبارك، الملك الألفي، تتشدد القلوب ويعلو صوت المرنم قائلاً:
قومي عروس الرب لا      تعيي من  السهد
لك  عريس  في  العلا      وهو رجا المجد
و  يأخذ  الملك   الذي      له  على  الجميع
و  ستراه  الأرض في      كرسيه    الرفيع
و  ستـــــــــــراك معه      في المجد والملك
بعد   انقضـــــــاء   الغربة     آلام والضنـــــك..آمين[40]

المراجع المستَخدَمَة في هذا البحث:
-        الكتاب المقدس ( ترجمة سميث- البستاني/ فانديك، الترجمة التفسيرية، The Greek New Testament - 4th Ed. , Biblia Hebraica )
-        البرموسي،الأب دانيال. و هم غلبوه. القاهرة: الكاتب، 2000.
-        القيصر، ابن كاتب. تفسير رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي. القاهرة: مكتبة المحبة، 1939.
-        المسكين، متى. الحكم الألفي. وادي النطرون: دير القديس الأنبا مقار، 1997.
-        أنس، جيمس. علم اللاهوت النظامي. ترجمة منيس عبد النور. القاهرة: الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة, 1999.
-        ثيسن، هنري. محاضرات في علم اللاهوت النظامي. ترجمة فريد فؤاد. القاهرة: دار الثقافة, 1987.
-        دائرة المعارف الكتابية - الجزء الأول. المحرر وليم بباوي. القاهرة: دار الثقافة, 1988.
-        رياض، يوسف. المسيح الملك. القاهرة: دار الاخوة للنشر, 2007.
-        زكريا، نصر الله. المجيء الثاني للمسيح بين الادعاءات الصهيونية و الحقائق الدينية. القاهرة: دار الكلمة, 2002.
-        سعيد، ابراهيم. فتح السفر المختوم - الجزء الثاني. القاهرة: مطبعة النيل المسيحية, بدون تاريخ نشر.
-        صبري، ابراهيم. خطوة خطوة نحو نهاية العالم. القاهرة: دار الأخوة للنشر, 1999.
-        صموئيل، فريز. المسيح في الهاوية. القاهرة: الطريق, 2005.
-        فكري، طلعت. الرجاء المبارك. القاهرة: المؤلف, 1998.
-        مشرقي، صموئيل. الباكورة و الاختطاف الباكر. القاهرة: كنيسة الله الخمسينية, 2003.
-        موريس، ليون. تفسير سفر الرؤيا. ترجمة شوقي غطاس. القاهرة: دار الثقافة, 1996.
-        ميخائيل، لبيب. مفاجآت المجيء الثاني. القاهرة: المؤلف, 1953.
-        نوتال، كلاي. علم التفسير. (محاضرات غير منشورة, معهد ناشونال للدراسات العليا- قسم الدراسات العليا. مساق رقم BIN500 الاسكندرية- مصر. ربيع 2007)
-        ني، واتشمان. آمين تعال أيها الرب يسوع. ترجمة إدوارد ناثان. القاهرة: الكنيسة الخمسينية بمصر, 2007.
-        هنري، متى. التفسير الكامل للكتاب المقدس- العهد الجديد - الجزء الثاني. القاهرة: مطبوعات إيجلز, 2002.
-        ولكوك، مايكل. تفسير سفر الرؤيا. ترجمة جاد النفلوطي. القاهرة: دار النشر الأسقفية, 1998.
ثروت ماهر/ 2007


[1] يوسف رياض. المسيح الملك, الغلاف الخلفي
[2] لبيب ميخائيل. مفاجآت المجيء الثاني, 112
[3] متى المسكين. الحكم الألفي, 2
[4] كلاي نوتال. (محاضرات غير منشورة في علم التفسير, مساق رقم BIN500. معهد ناشونال للدراسات العليا, برنامج الدراسات العليا, الأسكندرية- العجمي, ربيع 2007).
[5] متى هنري. التفسير الكامل للكتاب المقدس- العهد الجديد- ( الجزء الثاني), 648
[6] ابن كاتب القيصر. تفسير رؤيا القديس يوحنا اللاهوتي, 313
[7] جيمس أنس. علم اللاهوت النظامي. ترجمة منيس عبد النور, 188
[8] رياض, 188
[9] مايكل ولكوك. تفسير سفر الرؤية. ترجمة جاد المنفلوطي,234
[10] ليون موريس. تفسير سفر الرؤية . ترجمة شوقي غطاس, 252
[11] فريز صموئيل. المسيح في الهاوية, 13
[12] أنس, 515
[13] الأب دانيال. و هم غلبوه, 186
[14] المرجع السابق, 189
[15] القيصر, 317
[16] الاسخاتولوجي هو التعليم عن الأخرويات أي العلم المختص بالأحداث الأخيرة.
[17] نيقية هو مجمع مسكوني عُقد لمواجهة بدعة هرطرقية تدعى بدعة أريوس عام 325 م.
[18] رياض, 77 - 79
[19] القيصر, 314 - 329
[20] طلعت فكري. الرجاء المبارك و مستقبل العالم, 113- 125
[21] ميخائيل, 129 - 134
[22] ابراهيم صبري. خطوة خطوة نحو نهاية العالم, 116- 117
 [23]نصرالله زكريا.المجيءالثاني للمسيح بين الادعاءات الصهيونية و الحقائق الكتابية, 197
[24] دائرة المعارف الكتابية. المحرر: وليم وهبه.الجزء الأول, 369
[25] زكريا, 207
[26] ولكوك, 234 - 240
[27] صبري, 100- 101
[28] رياض, 28
[29] زكريا, 210
[30] أنس, 714
[31] ولكوك, 238
[32]  مخائيل، 57 - 77
[33] رياض، 131
[34] ابراهيم سعيد. فتح السفر المختوم- الجزء الثاني, 7
[35] صموئيل مشرقي. الباكورة و الاختطاف الباكر, 155
[36] واتشمان ني. آمين تعال أيها الرب يسوع. ترجمة إدوارد ناثان, 204
[37] هنري ثيسن. محاضرات في علم اللاهوت النظامي. ترجمة فريد فؤاد عبد الملك, 682
[38] رياض, 142
[39] ني, 201
[40]  فكري, 106
----------------------------------------------------------------------------------------------------
مقالات لاهوتية:     عظيم هو سر التقوى...

   بقلم دكتور/ ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت (PhD) - جامعة ريجينت، فرجينيا


     "...  و فيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني. لأن يوحنا عمد بالماء و أما أنتم فستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير. أما هم المجتمعون فسألوه قائلين يا رب هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل. فقال لهم ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه. لكنكم ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم و تكونون لي شهودًا في أورشليم و في كل اليهودية و السامرة و إلى أقصى الأرض...."
(أع1: 4 - 8)
     تعجبت جدًا، في هذه المرة، و أنا أقرأ هذه الأعداد الأولى من سفر أعمال الرسل. و الحقيقة أني قرأت كثيرًا هذه الأعداد و لم أجد بها أي شيء غير تقليدي، و مررت عليها كثيرًا مرور الكرام !! وذلك لكي أدخل إلى الأحداث المثيرة التي تليها من حلول الروح القدس و الأعمال المعجزية التي قام بها الروح القدس مُستخدمًا التلاميذ...ولكن استوقفني الروح القدس هذه المرة و أنا أقرأ، و فوجئت بسؤال يرن بداخلي... ما هذا الأمر الذي سأل عنه التلاميذ يسوع، لقد سألوه "هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟!!" ترد الملك لإسرائيل!! إن سؤال التلاميذ هذا كان مَبعَث دهشة بالنسبة لي، وأظن أنه كان كذلك بالنسبة لهم هم شخصيًا بعد الامتلاء بالروح القدس في يوم الخمسين... فالرب يسوع له المجد كان يأمرهم بألا يبرحوا أورشليم حتى يُرسل لهم المعزي الروح القدس, بينما هم يسألونه هل يمكثون في أورشليم إلى أن يُرَد لهم المُلك!! هو يتكلم إليهم عن حلول الروح القدس عليهم كألسنة من نار وملئه لهم بالمواهب و الثمار و هم يسألونه عن توقيت المُلك الأرضي!! هو يتكلم عن الروحيات المُزْمَع نوالها، و هم يسألونه عن رد المُلـك!! تعجبت جدًا من هذا، ولكن ما أثار عجبي أكثر وأكثر هو ما أجاب به المسيح ردًا عليهم... فالمسيح لم يحاول أن يشرح لهم أنهم سألوه سؤال لا علاقة له بما يكلمهم فيه!! ولم يحاول مثلاً أن يشرح لهم أنه يتكلم عن معمودية الروح القدس و بداية الكنيسة، بينما هم يسألون عن المُلك الألفي الذي زمانه لم يحن بعد و لا يستطيع شخص أن يتوقع زمان بدايته بدقة حيث أنه مرتبط ارتباطًا مباشرًا بنهاية زمن الكنيسة و المجيء الثاني للمسيح... لم يحاول المسيح أن يشرح أو يوضح أو يُرسي تعليمًا، مع أن هذه الفرصة بدت وكأنها فرصة مناسبة لإرساء الكثير من التعاليم عن معمودية الروح القدس أو عن تعاليم الأخرويات.[1] ولكن العجيب أن المسيح ردّ عليهم بقاعدة روحية وهي أننا ليس لنا أن نعرف الأوقات و الأزمنة، كما تنبأ عليهم بكلماته ذي السلطان أنهم سينالون قوة متى حلّ عليهم الروح القدس!! لماذا لم يوضح المسيح؟؟ لماذا لم يشرح؟!!
    
     وبينما أنا مُستغرق في أفكاري، وجدت سؤال آخر يشرق بداخلي فجأة، سؤال طالما سأله كثيرون ولازال يُسأل من كثيرين أيضًا...إنه الاستفهام حول الأمور التي يبدو أنها قد تعرضت للتغيير من العهد القديم إلى العهد الجديد... و التي يبدو للوهلة الأولى وكأن الله قد غيَّر رأيه فيها... أو كأنَّ الله الذي كتب الأمور الأولى غير ذاك الذي كتب الأمور الأخرى!! فمثلاً ما جاء في العهد القديم في سفر اللاويين: "كسر بكسر وعين بعين وسن بسن, كما أحدث عيبًا في الانسان كذلك يُحدث فيه..." (لا24: 20) بينما نجد المسيح في العهد الجديد في إنجيل متى يقول لنا: "سمعتم أنه قيل عين بعين و سن بسن و أما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل مَن لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضًا..." (مت5: 38) ما هذا ؟؟ لماذا هذا الاختلاف ؟؟ أليس مَن أعطى الوصية الأولى هو نفسه مَن أعطى الوصية الثانية ؟!..... بل ماهذا ؟؟ ما علاقة هذا الموضوع، الاختلاف بين وصايا العهدين, بالموضوع الآخر، سؤال التلاميذ حول المُلك و إجابة الرب عليهم ؟!! ما المشترك بين الاثنين ؟!
وهل هناك إجابة واحدة تفسر عدم مناقشة الرب لسؤال التلاميذ في أعمال الرسل، و تفسر أيضًا التباينات بين وصايا العهد القديم ووصايا العهد الجديد ؟!!!
تساءلت متحيرًا ومصليًا....

     بهدوء شديد بدأت الإجابة تلمع بداخلي، و بدأت أدرك المشترك ما بين الموضوعين... ما الذي جعل المسيح لا يحاول أن يشرح للتلاميذ معمودية الروح القدس ؟ الإجابة نجدها على فم المسيح نفسه في إنجيل يوحنا، إذ يقول للتلاميذ: "إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم, و لكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. و أما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق..." (يو16: 12, 13) إن المسيح لم يحاول أن يتكلم بالتفصيل عن معمودية الروح القدس التي كان التلاميذ مُزمعين أن يقبلوها لعلمه بأن هذا أمر اختباري, لابد أن يحدث لكي يُفهَم... أو كما يقول اللاهوتيون إن إعلان الله عن ذاته هو ذاته !! إن ما فعله يسوع المسيح في هذا الموقف هو بالضبط ما فعله الله منذ آلاف السنين عندما وضع القوانين الأدبية في العهد القديم ثم عاد وارتقى بها في العهد الجديد, وفي هذا إثبات أن يسوع المسيح هو الله الأزلي الأبدي... كيف هذا؟! سؤال أسمعه من قارئي العزيز..!!
أنظر معي عزيزي، كما أن يسوع لم يناقش التلاميذ لأنه كان يعرف قدراتهم آنذاك جيدًا، فالروح لم يكن قد ملأ أيًا منهم بعد ولذا فإنهم لن يفهموا ما المقصود بقوة الروح, لقد كانوا محتاجين لاختبار الملء بالروح لكي يفهموا ما المقصود به...  هكذا أيضًا فإن الله في العهد القديم, قبل التجسد, أي قبل أن يصير  الله الكلمة جسدًا و يحل بيننا، قبل أن تظهر نعمة الله الفائقة و محبته الغير مشروطة و غفرانه المُتسع للجميع في شخص الرب يسوع، قبل كل هذا كان من المستحيل أن يطلب الله من الإنسان أن يحب عدوه و لا يجازي العين بالعين و السن بالسن !! فقبل تجسد الكلمة كان ناموس الخطية هو الناموس المُتَحَكِم في الإنسان بالكامل فقد كان الإنسان ميت بالذنوب و الخطايا " إذ كنتم أمواتًا في الخطايا و غلف أجسادكم أحياكم معه مسامحًا لكم بجميع الخطايا" (كو2: 13)
ولهذا فإن الله كان يتكلم إلى بشر تحت ناموس الخطية، والذي كان يمكن أن يغير طبيعتهم، لم يكن قد أُعطِيَّ بعد. فالمحبة لم تكن قد أظهرت بعد بصورة كاملة كما أظهرت في شخص الرب له المجد. كان الله لايزال يلقن الإنسان دروسه الأولى في أن النفس في الدم و أنه لابد من الدم للتكفير عن الخطية، وكل هذه الأمور التي كان الإنسان يخطو خطواته الأولى في إدراكها...و على هذا فإن استقبال الإنسان لوصايا المحبة الغير مشروطة والبذل والعطاء والتسامح والغفران كان مستحيلاً... فالبشرية لم تكن قد استقبلت إعلان الحب الغير مشروط... إعلان يسوع المسيح... و على هذا لم يكن حتى لديها مجرد القدرة على تخيُل إمكانية هذا النوع من المحبة... ولهذا فإن الله من عدله و رحمته على الإنسان لم بتكلم في العهد القديم بتلك الكلمات التي تكلمها بعد آلاف السنين شخص الرب يسوع. فعلى سبيل المثال لو تكلم الله في العهد القديم بمبدأ مَن لطمك على خدك الأيمن حول له الأيسر, لم يكن الإنسان قد فهم أصلاً، و لو فهم و حاول التنفيذ كان سيفشل فشلاً ذريعًا... فمن أين له بالقوة والمسيح لم يسكن بداخله ؟! وأين له بهذا المستوى من التقوى و سر التقوى لم يستعلن بعد...(عظيم هو سر التقوى.. الله ظهر في الجسد) ؟!
و على هذا فإن الله قد اكتفى بوضع تلك القوانين الأدبية التي تقوم على العدل المطلق و التي ليس بها أي ظلم أو أي شائبة تعدٍ أجوف، و ذلك في رأيي لسببين:- السبب الأول: أن يفكر الإنسان جيدًا قبل أن يخطيء ويتذكر أنه كما سيفعلن فهكذا سيُفعَل به أيضًا، و هذا يجعله يحيد عن الشر و يلفظه.
والسبب الثاني: أن الإنسان يحتاج إلى الاستعلان الإلهي لكي يفهم، فلكي يفهم التلاميذ معنى الملء بالروح، كان لابد من اختبار قوة الروح نفسه، كان لابد من حلول الروح القدس عليهم... و أيضًا لكي يفهم الإنسان معنى المحبة الغافرة الغير مشروطة، كان لابد للإبن يسوع المسيح أن يحل فينا... هلليلويا... الله في المسيحية لا يعطينا وصايا و يتركنا لنصارع معها بقوتنا, إنه يعطينا الوصية و يعطي لنا ذاته معها، لنجد الاستنارة لفهم الوصية ونجد أيضًا القوة على تنفيذ الوصية...
والعجيب أننا لو تأملنا القوانين الأدبية التي وضعها الله في العهد القديم، فإننا نلاحظ أمرين:
 الأول: أنها هي نفس القوانين التي تطبق في يومنا هذا في العالم و بين غير المؤمنين على أنها هي العدل المطلق وهذا ليس بظلم ! فمن يقول مثلاً أن اعدام قاتل هو ظلم ؟! لا يوجد... و كأنه من دون المسيح و الإيمان به، وبدون حلوله في القلب " ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف3: 17) تصبح هذه القوانين هي قمة العدل والرقي في نظر العالم المَعمِي عن النعمة المسيحية...
أما الأمر الثاني فهو: أنه على الرغم من نظرتنا نحن المؤمنين الآن لهذه القوانين على أنها كانت عنيفة جدًا وقاسية، وهذه النظرة بالطبع هي نتاج الطبيعة الجديدة التي ملأتنا بمعاني الحب و الغفران و التضحية، على الرغم من هذا الرقي الذي نشأ فينا بفعل ميراث الخلاص، فإن الإنسان القديم فشل حتى في احترام هذه القوانين، إلا نفر قليل من الناس الذين استطاعوا أن يلتزموا، و إن كان في أحيان كثيرة لم يكن التزامًا كاملاً. مما يثبت أن هذه القوانين كانت أسمى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان آنذاك، بدون عمل الصليب و الولادة الجديدة. وحتى هذا استخدمه الله بنعمته لصالح الإنسان, فقد استخدم الله فشل الإنسان في طاعة القوانين الأدبية الناموسية ليُعَرِف الإنسان بواسطة هذا الفشل أنه يحتاج إلى قوة أعظم من قوته الإنسانية ليصل حتى إلى تحقيق هذا المستوى المبدئي من الوصايا. وقد عبَّر الرسول بولس عن هذا بالروح القدس، إذ يقول: "فهل الناموس ضد مواعيد الله ؟ حاشا.. لأنه لو أعطي ناموس قادر أن يحيي لكان بالحقيقة البر بالناموس. لكن الكتاب أغلق على الكل تحت الخطية ليُعطي الموعد من إيمان يسوع المسيح للذين يؤمنون. و لكن قبلما جاء الإيمان كنا محروسيين تحت الناموس مُغلقًا علينا إلى الإيمان العتيد أن يُعلن. إذا قد كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان." (غل3: 21 - 24)
و إنها حقًا لنعمة غنية أنه بالإيمان  بيسوع المسيح يجد الإنسان نفسه قد فاق أيضًا معيار هذه الوصايا الأدبية، ليصبح معياره هو معيار الرحمة و التسامح و الغفران، التي ملخصها هو استعلان كلمة الله الأزلي الأبدي بقلب الإنسان. كلمة الله الذي كان في البدء " في البدء كان الكلمة" (يو1:1) و الذي ظهر في الجسد " الكلمة صار جسدًا" (يو1: 14)
و عندئذ نفهم سر هذه التقوى التي نجدها بداخلنا و التي عبر عنها الرسول بولس بالروح القدس لتلميذه تيموثاوس في الرسالة الأولى, قائلاً: "عظيم هو سر التقوى, الله ظهر في الجسد..." (1 تي3: 16)  فسر التقوى يَكمُن في ظهور الله في جسد بشريتنا... و المحرك الذي يجعل التقوى حقيقة يمكن أن نعيشها هو ظهور الله في الجسد و قبل ظهور الله في الجسد كان هذا المستوى من التقوى سرًا مستحيل على البشرية اكتشافه أو فهمه أو الخوض فيه، بالضبط كما كانت قوة الروح القدس قبل حلوله يوم الخمسين، سرًا لا يمكن للتلاميذ أن يكتشفونه أو يفهموه إلا بعد أن يتعمدوا به...
ثروت ماهر
مارس - 2003


[1] تعاليم الأخرويات: هي التعاليم المُختصة بالأحداث الأخيرة مثل المجيء الثاني للمسيح و نهاية العالم و المُلك الألفي,إلخ...

------------------------------------------------------------------------------------------------------------

محاضرات في علم الآباء


المحاضرة الأولى

مقدمة في علم الآباء "Patrologia"


   إعداد دكتور/ ثروت ماهر

دكتوراه في اللاهوت (PhD) - جامعة ريجينت، فرجينيا

1-     تمهيد:
v     مصطلح "علم الآباء":
  1. الأصل اللغوي: مصطلح "Patrologia" مأخوذ من الكلمة اللاتينية Pater التي تعني "أب".
  2. من أقدم الكتابات التي استخدمت كلمة "أب" لتشير إلى شخص متقدم روحيًا:
ü      وثيقة استشهاد بوليكاربوس (156م.): الوثنيون واليهود يصرخون "هذا هو أب المسيحيين".
ü      القديس إيريناوس أسقف ليون يكتب في القرن الثاني: "حينما يتعلم شخص من فم شخص أخر، فإنه يسمى إبنًا للذي علمه، والآخر الذي علمه يسمى أبًا."
v      لمحة عن تاريخ علم الآباء:
  1.  يعد كتاب "تاريخ الكنيسة" لـيوسابيوس، كتاب "مشاهير الرجال" لـجيروم من أوائل الوثائق الآبائية.
-          نبذة عن كتاب تاريخ الكنيسة ليوسابيوس:
·         يوسابيوس القيصري هو كاتب كتاب تاريخ الكنيسة، عاش 264- 340م، يعتبر من أقدر المؤرخين وأسبقهم رغم أنه مال إلى الآراء الأريوسية.
·         الكتاب يحتوي عشرة كتب (أبواب كبيرة يطلق عليها كتب)، وكل كتاب يحتوي عدة فصول.
·         لدينا ترجمة عربية للكتاب (التي تعرفنا عليها في المحاضرة)، ترجمها القمص مرقس داود، نشر مكتبة المحبة.
·         نجد في الكتاب سرد وشهادات عن موضوعات وشخصيات متعددة، تميل إلى الترتيب التصاعدي بحسب الزمن، أمثلة لهذا: سرد وشهادات حول فترة حياة الرب يسوع، والرسل بعد صعود الرب، بعض الشهادات عن يوسيفوس ومؤلفاته، أكليمندس، وإيريناوس، والعلامة أوريجانوس، وقسطنطين.
  1. أول مَن استخدم المصطلح "باترولوجيا"، كعنوان لكتاب آبائي كان اللاهوتي اللوثري  John Gerhard في القرن 17 وقد نشر هذا الكتاب في 1653.
 
2-     مفهوم علم الآباء، دراسة اللاهوت عند الآباء:
علم الآباء هو العلم الذي يتناول دراسة سير الآباء، لاهوتهم وكتاباتهم وتعاليمهم.
س): لماذا ندرس سير ولاهوت وكتابات وتعاليم الآباء؟
ج): لنتعرف على خبرة الحياة الروحية الخاصة بهم، فهم جزء من تاريخ حي لنمو الاختبار الروحي للكنيسة. الحياة الروحية ليست مجرد أفكار لكنها اختبار حي بالروح القدس. سير حياة الآباء توضح تعاليمهم، وتعاليمهم تعبر عن حياة عاشوها بالروح وبالحق.
س): ما هو الهدف الرئيسي من دراسة لاهوت الآباء، ومن دراسة اللاهوت عامة؟
ج): الهدف الرئيسي من أي دراسة لاهوتية حقيقية هو معرفة الله.
علم اللاهوت هو العلم الذي يدرس الإلهيات، أو هو العلم الذي يدرس ليعرف ما لله. معرفة الله لا تكون إلا بإعلان. الله فقط هو القادر إن يعلن عن ذاته. الله عندما يعلن عن ذاته، يعطي ذاته.
س): مَن هو اللاهوتي الحقيقي، وما هي دراسة اللاهوت عند الآباء؟
ج): يقول إيفاجريوس (٣٤٦ – ٣٩٩)[1]: "اللاهوتي الحقيقي هو مَن يصلي. إذا كنت لاهوتيًا حقيقيًا، إذًا فأنت تصلي، وإذا كنت بالحق تصلي، إذا فأنت لاهوتي حقيقي."
كما يقول العالم اللاهوتي نياندر[2]: "إن القلب هو الذي يصنع اللاهوتي."[3]

3-     اللغة التي كتب بها الآباء:
-          تعتبر اللغة اليونانية هي اللغة الأصلية لمعظم الكتابات الآبائية. ولم يستخدم معظم الآباء اليونانية الكلاسيكية، لكنهم استخدموا لغة يونانية تُسمى "كويني" وهي أقرب لليونانية الشعبية.
-          في الشرق: حلت اللغات المحلية مثل السريانية، القبطية محل اللغة اليونانية.
-          في الغرب: بعد القرن الثالث: حلت اللاتينية محل اليونانية.

4-     سمات آباء الكنيسة:
  1. العقيدة السليمة، والإيمان المستقيم: لا يكون هناك انحرافات عقيدية، عندما كانت تلاحظ الكنيسة انحرافات في الفكر، كانت تنعقد المجامع ويُحكم على العقيدة الخاطئة وعلى المخطيء.
  2. قداسة السلوك والسيرة النقية
سمات أخرى:
-          يكون للأب كتابات تعبر عن فكره، أو كتابات كتبها آخرون نقلاً عنه.
-          اتفاق الكنيسة العامة.
-          القدم. (البعض يضعون القرن السادس كنهاية لكتابات الآباء.)
ملحوظة: هناك فارق بين الكُتّاب الكنسيين (يطلق عليهم "العلامة")، والآباء. ليس كل الكتاب الكنسيين أباء.
مثال: العلامة ترتليانوس (تنيح في 220)، العلامة أوريجانوس (تنيح في 253).

5-     أهمية دراسة الآباء:
-          البعد التعليمي: يقول الدكتور نصحي عبد الشهيد: "كل تدريب على المعرفة اللاهوتية يظل ناقصًا جدًا، بدون تذوق لفكر الآباء."
-          البعد الاختباري، تكلمنا عنه سابقًا.
-          البعد التفسيري: للتعرف على تفسيرات الآباء لأسفار الكتاب المقدس، وقد تعرفنا على نموذج للتفسيرات الآبائية، تعرفنا في المحاضرة على تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس عمود الدين. كما رأينا الأب متى المسكين كنموذج لأب ولعالم آبائي عاش علاقة فريدة مع الكتاب المقدس وشخصياته، يحكي الأب متى المسكين في مذكراته قائلاً: "كانت الإضافة العظمى لرصيد حياتي الروحية هي المعرفة بدقائق العهدين القديم والجديد، في تأملات عميقة واعية وصلاة عشت مع جميع شخصيات الكتاب المقدس ودخلت في سر العلاقة الحية التي كانت تربطهم بالله..."[4]
-          بعد في العبادة: القداسات الثلاثة في الكنيسة الأرثوذكسية هي قداسات آبائية النواة. القداس الباسيلي/ باسيليوس، القداس الغريغوري/ غريغوريوس النزينزي، القداس الكيرلسي/ كيرلس عمود الدين.

6-     التصنيفات العامة لآباء الكنيسة، وللكتابات الآبائية:

a.      آباء الكنيسة: 
 


التصنيف العام


رسوليون

مناضلون

معلمو المسكونة

المعترفون

آباء الرهبنة


-          رسوليون: اتصلوا بالرسل أو بحقبة الرسل مثل اكليمندس الروماني (تعرفنا على رسالته للكورنثيين)، إغناطيوس الأنطاكي، بوليكاربوس.
-          مناضلون: ناضلوا في الدفاع عن المسيحية ضد الوثنيين واليهود مثل يوستينوس الشهيد وإيريناوس.
-          معلمو المسكونة: لعبوا دور تعليمي كبير في صياغة قوانين الإيمان أو في تفسير الكتاب المقدس مثل اثناسيوس (تعرفنا في المحاصرة على الكثير من كتبه مثل تجسد الكلمة والرسائل الفصحية ورسائل الروح القدس إلى سرابيون) ، وكيرلس عمود الدين، ويوحنا ذهبي الفم.
-          المعترفون: علموا الإيمان واضطهدوا مثل ساويرس الأنطاكي.
-          آباء الرهبنة: عاشوا حياتهم رهبانًا متوحدين أو في شركة مثل الأنبا أنطونيوس (تعرفنا في المحاضرة على رسائله)، الأنبا باخوميوس، والأنبا مقار (تعرفنا في المحاضرة على عظاته).


b.      الكتابات الآبائية:
ü      تصنيف حسب اللغة: مثل آباء يونان/ لاتين/ أقباط/ سريان/ أرمن.
-          أكبر مجموعة من كتابات الآباء نجدها باللغتين اليونانية، واللاتينية. وتسمى المجموعتين المشهورتين : باترولوجيا جريكا، باترولوجيا لاتينا نسبة إلى لغتيهما.

ü      تصنيف حسب الترتيب التاريخي:
i.      بدايات الكتابات الآبائية: ويشمل كتابات القرون الثلاثة الأولى: ويمكن تقسيمها إلى:
-          كتابات الآباء الرسوليين مثل رسالة اكليمندس الروماني إلى الكورنثسيين، رسائل اغناطيوس إلى كنائس آسيا، رسالة بوليكاربوس إلى الفلبيين.
-          كتابات الآباء المدافعيين
-          كتابات الآباء في القرنين 2، 3: مثل إيريناوس (تعرفنا في المحاضرة على كتابه الكرازة الرسولية)، اكليمندس السكندري.
ii.      العصر الذهبي للكتابات الآبائية: ويشمل من سنة 300 إلى 440 م. : ويمكن تقسيمها إلى:
-          كتابات الآباء الشرقيين: مثل اثناسيوس، كيرلس عمود الدين، باسيليوس ، مار افرام السرياني.
-          كتابات الآباء الغربيين: مثل هيلاري أسقف بواتيه، جيروم ، أغسطينوس.
iii.      العصر المتأخر للكتابات الآبائية: ويشمل من سنة 440 إلى حوالي 600 م.: ويمكن تقسيمها إلى:
-          كتابات الآباء الشرقيين: مثل ماراسحق السرياني، يوحنا الدرجي.
-          كتابات الآباء الغربيين: مثل غريغوريوس الكبير.


7-     ما هي أشهر المصادر العربية التي تساعدني على قراءة الآباء في مصر؟
-          ترجمات القس مرقس داود مثل: كتاب تجسد الكلمة لأثناسيوس، رسائل أثناسيوس إلى سرابيون، الرسائل الفصحية، حياة أنطونيوس بقلم أثناسيوس، تفسير رسالة أفسس لذهبي الفم، كتاب تاريخ الكنيسة ليوسابيوس.
-         كتابات القمص تادرس يعقوب المالطي مثل سلسلة تفسير الكتاب المقدس من تفاسير الآباء.
-         اصدارات المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية (أو مؤسسة القديس أنطونيوس)، وهي متعددة جدًا وأكاديمية.
(http://www.patristiccenter.org/)
-         كتابات الأب متى المسكين، اصدارات مجلة مرقس.
(http://www.stmacariusmonastery.org/)
-         الاصدارات القديمة للأب دانيال، مركز خدمة الشباب أيبارشية المنيا وأبو قرقاص مثل: لا أتزعزع: كلمات مضيئة للقديس باسيليوس الكبير. ، كتيب قصة لم تمت، عن القديس بوليكاربوس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع المستخدمة:
-        أحد رهبان برية القديس مقاريوس، دراسات في آباء الكنيسة (القاهرة: دار مجلة مرقس، 2000).
-        الأب متى المسكين، القديس أثناسيوس الرسولي (وادي النطرون: دير القديس الأنبا مقار، 1981).
-        د. نصحي عبد الشهيد، مدخل إلى علم الآباء (القاهرة: المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية، 2000).
-        القمص تادرس يعقوب المالطي، مقدمة في علم الآباء (الاسكندرية: مكتبة مارجرجس اسبورتنج، 2003).
-        يوسابيوس القيصري، تاريخ الكنيسة (القاهرة: مكتبة المحبة، 1999).
     - Ehrman, Bart D., ed. and trans.  The Apostolic Fathers. Loeb Classical Library. 2 vols. Cambridge, MA: Harvard University Press, 2003


[1] Treatise on Prayer, 61, from: http://www.orthodoxwiki.org/Evagrius_Ponticus
[2] نياندر هو لاهوتي ألماني ومؤرخ كنسي (1789 – 1850) وقد قال هذه الكلمات في حديثه عن أثناسيوس الرسولي
[3] Matthew the Poor, St. Athanasius, 27
[4] أبونا القمص متى المسكين، السيرة الذاتية لحياة الأب متى المسكين، ص20
----------------------------------------------------------------------------